ما بين اتفاق كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل والاتفاقيات الإبراهيمية أكثر من مجرد عقود من السنوات التي عجزت عن إذابة الكتل الإسمنتية الضخمة بين العرب والإسرائيليين. ومن الواضح أن هذه الكتل بدأت تتكسر وتتحطم بعد أن فعلتها الإمارات والبحرين وعقدت «اتفاقات إبراهام» للسلام التي شكلت منعطفاً حاداً في تغيير شكل الشرق الأوسط، وخففت بشكل واضح من تلك القيود التي أتاحت ظهور أكثر للصحفيين الإسرائيليين وتزايد نشاطهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أو عبر مختلف منصات الإعلام العربية، التي بدورها أتاحت للرأي الإسرائيلي مساحة أوسع مما سبق اتفاقيات السلام الإبراهيمية.
الصحفي الإسرائيلي تقف خلفه مؤسسات تدعمه بالمعلومات التي يبحث عنها الصحفيون حول العالم. امتلاك المعلومة هي القوة التي تعطي للصحفي حضوره وقدرته في التحليل السياسي، إضافة لما يمتلكه من مخزونات ومهارات تُكتسب مع الممارسة. الصحفي الإسرائيلي الذي بات محط أنظار عيون العرب لقدرته ليس في نشر المعلومة، بل في تمريرها بالطريقة التي يرغبها المواطن العربي، الوتر الذي يضرب عليه الصحفي الإسرائيلي وتر صنعه عبر سنوات التيار «الإسلاموي» الذي شوه الصحفي العربي، معتبراً أنه بوق للسلطة السياسية، وأن الصحافة بجملتها مجردة من القيم والأخلاق، وهي تبيع الوهم وتخادع الشعوب.
الصحفي الإسرائيلي بربع معلومة أصبح قادراً على التأثير، تماماً كما يستطيع بعض من الصحفيين العرب أن يفعلوا ما هو أبعد من ما يفعله الإسرائيلي، وإن كان العربي (مكسرة مجاديفه) كما يقال بالعامية العربية، ومع ذلك فإن الصحفي العربي يستطيع أن يفتح آفاقاً للخروج من أكوام ما صنع المتأسلمون في طريقه. فالفكرة الحقيقية تبدأ من إعلان الصحفي العربي مواجهة الإرث المتراكم من التشويه في مضمون ما قدم ويقدم وسيقدم، وهنا دعوة مثالية للمؤسسات الصحفية العربية لتُطهر ما علق بها عبر إتاحة المساحات للتيارات العقلانية لتخاطب المواطن العربي.
أفرطت بعض المؤسسات الإعلامية العربية في منح التيارات المتأسلمة مساحات واسعة لتأليب المجتمعات، والأخطر من تأليبها كان سياسة إخضاعها لخطاب أحادي محفوف بالرعب والتخويف لطبقات المجتمع العربي وأشعرته بأنه مجتمع مخترق ومترهل وضعيف في مواجهة القوى الاستعمارية وإسرائيل، مما صنع نسيجاً هشاً لا يمت للعقل بشيء وزرع بشكل بشع أشجار الخوف في الضمير العربي. لم تكن «الصحوة» الإسلامية وما رافقها من خطابات التكفير لتجد صداها لو كان هناك إعلام مضاد يتصدى لتلك الخطابات التي أفرزت تنظيم «القاعدة» و«داعش» وسبقهما الخميني بثورته في إيران.
الصحافة الإسرائيلية لم تكن يوماً لاعباً هامشياً في الشرق الأوسط، فلقد زاملت أزمات العرب، بل إنها كانت أحياناً التي تصنع تلك الأزمات، ولطالما كان الإعلام الإسرائيلي مصدراً للأخبار الصحيحة والمغلوطة، وما كان في حرب نكسة العام 1967 يظل مسماراً عالقاً في رأس المواطن العربي والإسرائيلي، فكلاهما شربا كؤوساً من الأخبار، التي أدعت تحفيز المعنويات على حساب الحقيقة، وانتهت الحرب ودخلنا حروباً بعد حروب، انتصرنا وانتصروا، ثم جاءت الاتفاقيات الإبراهيمية، وتصافحنا على وسائل التواصل الاجتماعي وسقطت الحواجب الزائفة، وبدأنا في سباق تنافس مشكلتنا فيه كعرب أن قومنا متلبسون بالخوف من إسرائيل وعدم الثقة في ما يقول الصحفي العربي.
لن يكون من السهل التنافس بين الصحفي العربي والإسرائيلي، حتى يتخلص العرب من الميراث الذهني المغلوط والممتلئ بالتشاؤم، وهذا يتطلب مصارحة بين العرب وأنفسهم، بين مؤسساتهم الإعلامية وشعوبهم لاستعادة الثقة في ما تطرحه الصحافة العربية، وأنها تعتمد على اختصاصين ومؤهلين في صحافة الاستقصاء وصناعة المحتوى الإخباري، والتأثير في الرأي العام الدولي بمعايير مهنية وبأخلاق عربية، مع ضرورة وضع منهجية واضحة تمنح للصحفي العربي أدوات العمل المؤسسي، مع تدارك أن دخول الصحفي الإسرائيلي في هذا التنافس المهني سيضيف جودة أعلى، وسيكتسب المواطن في الشرق الأوسط صحافة أقوى، تمتلك القوة في كسر موجات الهجوم الإسلاموي المتطرف، فما تبقى من الصحفي العربي من الأرصدة مازال يؤهله ليفوز في منافسة الإسرائيلي.
* كاتب يمني