منذ تأسيس تنظيم «الإخوان» على يد حسن البنا ظهرت متلازمات لم تنفك ولن تنفك متى كانت أيديولوجية التنظيم حيّةً تسعى. فعقيدة «الإخوان» وضعت الحاكمية لمرشدها العام لمنازعة السلطة الحاكمة في الدولة الوطنية.
ومن هذه النقطة يشن التنظيم خصومته ضد السلطة السياسية بمؤسساتها السياسية والعسكرية والاقتصادية وحتى الثقافية، بما فيها الصحف والمجلات التي كانت للتو تتلمس وجودها بعد بدء مرحلة التنوير بنهاية الحرب العالمية الأولى. يعتبر تنظيم «الإخوان» أن وسائل الإعلام أدوات للحاكم الذي تعده الخصم في «معركتها المقدسة» التي تُشوه من خلالها مؤسسات الدولة.
ومع توالي المحطات التاريخية ورغم أن الصحف والمجلات والإذاعات كانت في مراحل التأسيس، غير أنها وجدت نفسها كرأس الحربة في مواجهة تنظيم «الإخوان»، خاصة في مصر التي عرفت سجالات مفتوحة حتى مع صعود الناصرية والمد القومي الذي وفره الزعيم جمال عبدالناصر، حتى مع محاولة اغتياله في حادثة المنشية ظل قادراً على مواجهة التنظيم، الذي بدوره صنع صحفاً ومجلاتٍ مضادة اعتمدت على الفجور في الخصومة، ودخلت مراحل خطرة على المجتمع المصري بعد نكسة 1967 وحاولت التشجيع على الخروج ضد الدولة، وظهرت مقالات التكفير المباشر والعلني للنظام السياسي المصري.
لم تكن بغداد ودمشق وبيروت وعدن والخرطوم بعيدة عن الصراع بحكم التأثير القومي العارم آنذاك، وبنهاية عبدالناصر كانت التلفزيونيات العربية قد دخلت ضمن الوسائل الإعلامية الممولة من أنظمة الحكم في العالم العربي. غير أن عناصر التنظيم كانت تتغول في المؤسسات الإعلامية بأنواعها وأشكالها، وشكلوا من رحم المؤسسات خطابهم الذي تأسس على لغة بث الكراهية للحاكم وسلطته السياسية، وهو ما تزايد بعد أن عقد الرئيس السادات اتفاق السلام مع إسرائيل، لتكون حادثة اغتياله تتويجاً لخطابات إعلامية واسعة، خاصة وأن مصر عرفت ما أطلق عليه صحف المعارضة ضمن سياسة السادات لاحتواء تنظيم «الإخوان». خلال الثمانينيات الميلادية من القرن العشرين، كان تنظيم «الإخوان» يسيطر على الإعلام العربي، وكان قادراً على توجيه المجتمعات، بل وصل للقدرة على إخضاعها بقوة النفوذ الإعلامي، وإنْ كان ممولاً من الحكومات والأنظمة التي كانت تشعر بالخطر، غير أن الظروف السياسية ظلت العنصر الذي يوفر لتنظيم «الإخوان» الفرص المواتية للاستمرار حتى دخول عشرية الدم الجزائرية، التي كانت الإشارة على أن العالم العربي وقع في شبكة الإيديولوجية، وبات تحت ضغط الخطاب المتأسلم وتداركت المنطقة العربية أنها مختطفة، ولم تكن قندهار غير الأرض التي أثمرت فيها مسيرة التنظيمات ليخرج المولود الدموي باسم تنظيم «القاعدة».
كل الحوادث، وحتى إعلان قيام دولة «داعش» كانت مراحل ممتدة وجد فيها المتأسلمون مواقع عملهم لبث خطاب الكراهية، واستقطاب الشبان الجدد، بل وحتى «الداعشيات»، في قفزة مخيفة لمستقبل الصراع الذي عرف كيف يوظف حتى وسائل الإعلام المعاصرة، ويحقق المشاهدات الأعلى للقتل والإرهاب لتجد الذئاب المنفردة كل ما تطلبه لبعث الرعب والخوف في الناس، بل والخلود في ذاكرة المجتمعات.
بالعودة لسنة حكم «الإخوان» في مصر، وكيف استبدلوا ديكورات الاستديوهات وأعمدة الصحف، يكتشف المراقب حجم التغول وقوة السيطرة على مفاصل الإعلام العربي سواء الحكومي أو الخاص، الذي يبدو عاجزاً حتى وإنْ سقط التنظيم في مصر، وأفشل في دول عربية أخرى، فمازال الخطاب التعبوي الباعث لكراهية المجتمع وتوجيه الرأي العام موجوداً وحاضراً، بل ومؤثراً ليس على منصات التواصل الاجتماعي فقط، بل في غالب وسائل الإعلام التي مازالت محبوسة في سجون الخوف الإيديولوجية وتخشى طرح القضايا الفكرية بروح عصرية، وهو ما يجب كسره وفتح الفضاء الواسع لمراجعة ومناقشة التراث الإسلامي. وكما منح ما يسمى بالدعاة الجدد الساعات المفتوحة لتسميم العقول، فلابد من منح الساعات المفتوحة للتنويريين والمفكرين لتطهير العقول من ما التبس عليها في حقبة سيطرة «الإخوان»، الذين كانوا يُسفهون الإعلاميين والمفكرين ويصفون طرحهم على أنه «كلام جرايد» ليس له قيمة تذكر.
* كاتب يمني