أي زائر للبنان، أو قارئ عن أحواله، أو مراقب لشؤونه وشجونه، لا يمكن أنه يرى أي تعددية سياسية إلا في إطار طائفي، فالطوائف هي الأصل، وكل شيء يدور حولها، وأغلب الناس يرتضون بهذا الوضع، ولا يطمحون إلى هدمه بل تحسينه ولو قليلا، وينظرون إلى النخبة الناقمة على الطائفية، والعابرة لها، باعتبارها مجموعة من الحالمين، الذين يطلبون المستحيل، أو يستعجلونه.
يجرى هذا رغم أن الزائر للبنان لا يرى هذه الطائفية منعكسة في مظهر الناس، وكثير من تصرفاتهم. ففي أي مقهى أو مطعم أو ملهى أو ملعب لكرة القدم أو محطة باصات لا يمكن للرائي أن يفرق بين هذا وذاك، حين ينظر إليهم من الخارج، أو يمعن النظر فيما يفعلون أثناء التفاصيل الصغيرة والمتلاحقة للحياة اليومية، بعيدا عن وجوه ملوك الطوائف أو أمرائها، التي صارت محفورة في الأذهان، من طغيان حضورها، في الواقع وعلى شاشات التلفاز، ومخيلات الناس.
يمكن لأي من زائري بيروت أن يفرق بين عمامة لرجل دين شيعي، وأخرى لنظيره من أهل السنة وقلنسوة لمن على دربهم من المسيحيين، أو يفرق بين قروية ترفل في ثوبها الأسود وغطاء رأسها الثقيل وبشرتها الطبيعية التي لم يمسسها شيء، وبين ابنة المدينة حاسرة الرأس، قصيرة الثياب، ذات الوجه المزين بمساحيق زاهية. لكن تبقى هذه التفرقة استثناء، لاسيما في بيروت، حيث تتقارب المظاهر إلى درجة التوحد، وتتوالد الصداقات على المستوى الأدنى بين المسيحيين والمسلمين، وما في كل من الديانتين من توزيع على المذهب، وكذلك الدروز، وما لهم من اعتقاد أو تصور ديني. تتوالد وتتناسل حين ينسى كل منهم، ولو لبرهة، خلفيته الطائفية، لاسيما في أوقات يمضي فيها العيش بلا تشاحن.
وحين تنصت إلى اللبنانيين في أوقات الصفاء، لا تشعر بفرق بين أحد وآخر، لاسيما إن كان الحديث عن الأيام التي يحيونها، المتراوحة بين المكابدات والطموحات، وبين الالتصاق بواقع جارح والتحليق في أحلام مجنحة عن حياة هانئة في رغد وسلام.
أما في أوقات الأزمات، أو حين يأخذ كل طرف موقف الجهة الخارجية التي يميل إليها في الاعتبار، يعود كل منهم إلى طائفته طلبا للحماية، دون أن يفكر في الأهداف والمقاصد والتصورات التي يؤمن بها أمير كل طائفة، أو القواعد العامة التي تحكمها، فهو في أيام الخطر يتخلى عن كل ما تعلمه عن التسامح والتعايش والحداثة وضرورة تجاوز ما في الطائفية من تحجر وانغلاق.
هكذا أدركت حين تحدثت إلى لبنانيين ونحن نجلس حول طعام شهي في أحد مطاعم الأشرفية. كانت الصحبة تضم كتابا ومفكرين يتوزعون على كل الطوائف، فراحوا يتكلمون كأنهم واحد، أو هكذا أدركت وقتها، فكلهم كانوا في حب لبنان واحدا، لكن ما إن تفرع الحديث في مسائل جانبية متأزمة، حتى عاد كل منهم يلتحف بطائفته، ويزود عنها، فبدوا جميعا منسلخين من اللحظة التي كانوا يعيشونها، وكأنهم يمثلون أدوارا في مسرحية تراجيدية، وعليهم أن يتقنون فعلهم هذا إلى أبعد حد.
بدا لي الأمر وأنا أراهم، بينما ألتهم بعض ما جاد به المطعم اللباني الشهي، غريبا جدا، إذ كيف يدرك هؤلاء كل هذه العيوب التي تصم الطائفية بنظامها وترتيباتها ومآلاتها الممقوتة، ثم ينسون كل ما تعلموه وفهموه، ويعود كل منهم ليتخندق خلف أمير طائفة، أيا كان اقتناعه بشخصه، أو بما يفعله؟
هذا هو سؤال كل وقت، الذي تتهرب منه النخبة الثقافية والفكرية اللبنانية، وكل عقلاء السياسة، رغم أنه يفرض نفسه دوما، على كل آت إلى لبنان أو قارئ عنها، متمهلا كان أم متعجلا، وقبل هذا وذاك، يحضر بلا انقطاع في رؤوس اللبنانيين وقلوبهم، لتبرهن لهم الإجابة عليه أن كل تعصب لطائفة خيانة للبلد، ولمسيرة الإنسانية نحو التحرر من كل عصائب وعصابات الزمن البعيد، حتى لو كان بعضه يرتدي أقنعة جديدة براقة، تزعم أن الاستعانة بما قد مضي هو سبيل الحماية والرعاية والاطمئنان إلى ما يجري.