فتحت الثورة الإيرانية (1979) بوابة التدين الطّاغي الممنهج، ثم قامت الحملة الإيمانيَّة داخل العّراق(1993- 2003) التي شرعت ما صدرته تلك الثورة، ومع شدة الحصار، صار المجتمع العراقي جاهزاً لقبول تخلف القوى الدينية التي واصلت تلك الحملة (بعد 2003) بشدة، وهذه 18 سنةً والعراق يزحف نحو الهاويّة. وصل الحال أن كتلةً برلمانيّةً جعلت قاعة البرلمان، الذي يمثل فئات الشعب المختلفة دينياً ومذهبياً، إلى حُسينية يقرأ فيها دعاء التعجيل بظهور المهدي المنتظر، والمناسبة كانت (15 شعبان) الذي يُعتقد أنه يوم ميلاد المهدي، وكأن الحُسينيات والمراقد بالعراق قليلةً، حتى تكون قاعة البرلمان مكاناً لهذا الاستعراض! فقبلها بسنوات، وبعد وصول جماعة «الإخوان» والقوى السلفيَّة إلى السلطة، قطع أحدهم جلسة البرلمان برفع الأذان إيذاناً بالدولة الدينيّة، مع أن في تاريخ الإسلام كانت دار الإمارة، والأذان في المسجد.
عندما لا يميز بين الدولة والحُسينية أو المسجد، تُبرر الكراهية، ويبرر التّكفير وتجهيل المجتمع، يصبح الواعظ أو قارئ المنبر الحسيني هو السلطة، تتحول الرسائل الفقهية إلى قوانين مقدسة، والاغتيالات والفساد بالمال العام يبرر بنصوصها. وعندما تُهتك الحدود الوطنيَّة بضغط الدِّين والمذهب، يخرج رئيس وزراء ورئيس كتلة برلمانيّة يُدافع عن رفع صور لقادة أجانب، ترفعها جماعات مسلحة، على أنَّ هؤلاء مراجع المذهب، وما عَلمنا أن للمراجع الأجانب مسلحين داخل بغداد، إلا بطغيان التَّدين وتوظيفه.
قدمت القوى الدينية السياسية نماذج فاضحة لطغيان التدين على الدولة، ماضيها وحاضرها، فالدين الأكثر توظيفاً في الشَّأن السِّياسي، وقديماً نُقل عن القاضي والفقيه عبد الله بن المبارك(ت:181هجريَّة): «قد يفتح المرء حانوتاً لمتجره/ وقد فتحت لك الحانوت بالدِّين/ صيرت دينك شاهيناً تصيد به...»(ابن خِلِّكان، وفيات الأعيان).
تلك مشاهد غير منفصلة عن الماضي، وأدت إلى الخذلان والدِّماء، حصل (307هجريَّة) أن قُتل «عروس المؤذن» بالقيروان، حيث الخلافة العبيدية الإسماعيلية، والسَّبب أنه رفع الأذان بلا «حيَّ على خير العمل»(المالكي، رياض النُّفوس)، في مسجده السُّني، فسُل لسانه وقُتل. لكنَّ ماذا انتج هذا الطغيان الدّيني على الدولة، فبعد انتقال العبيديين إلى مصر(362هجريَّة)، ثار أهل القيروان على نوابهم «آل باديس»، وتحولت الطُّرقات إلى مسالخ بشريَّة، مارسها العوام الناقمون على الحكم، فأتوا بشخص، قالوا: «زنديق، يفضل علي بن الخطاب على عمر بن أبي طالب»(القاضي عياض، ترتيب المدارك). أقول التدين الطاغي اليوم على الدولة مِن هذا النوع، لا يميز بأسماء مَن جعلهم سبباً لانفعالاته، ومَن يفكر أنه يختصر الدولة بكتلته الدينية، ينتظر رد الفعل، فما يحصل يُعد تحشيداً لنكبات قادمة، لا تحسبوها «ديمقراطية» والدولة مستلبة بطغيان التدين.
عندما يبدأ القتل على أساس طَّائفي يلتهم الجميع، فلما تحول المسجد إلى دار حكم، جلس الفقيه ابن خلدون البلوي(قُتل: 407 هجريَّة) يقضي، وأتي برجل فقال: «لِمَ لا تقتلوه فإن كان رافضياً أصبتم، وإن كان سُنياً عجلتم بروحه إلى الجنَّة»(ترتيب المدارك). بعد ألف عام تكرر المشهد، وقالها قاضي الثورة الإسلامية صادق خلخالي(ت: 2003): «البريء يدخل الجنة»! أتلاحظون، كيف يتقدم الزمن والحوادث تتكرر، لأن رجال الدين، عندما يدخلون حلبة السِّياسة، لا شأن لهم بالزمن، يريدون الدولة لا دولة، وهذا ما يحصل بالعِراق بعد 18 سَنةً مِن طغيان التَّدين.