توليتُ منصبَ السفير الصيني لدى الإمارات منذ أكثر من أربع سنوات. وفي الأيام التي جئت فيها للتو إلى هذا الموطن الذي لن يخلو من عجائب العالم، كانت تخطف أنفاسي ناطحات السحاب الشاهقة ومراكز التسوق الفاخرة والنوافير الموسيقية الراقصة والأفعوانيات المثيرة. في يوم واحد، كنت راكباً سيارة تسير على الطريق الصحراوي المستقيم، خلال رحلة العمل من أبوظبي إلى دبي بُعيد حضور مجلس عن «عام زايد» الذي ترأسه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، ولفت نظري أفق مدينة دبي الذي لاح كسراب في سماء الغسق، حينئذ تراءت أمام عيني قصة رُويت أثناء المجلس، مفادها أن الشيخ زايد الأب المؤسس لاتحاد الإمارات أمسك بعصا خشبية ورسم به طموحات الإمارات العظيمة في الصحراء. بدا أن تلك اللحظة طاردتني إلى حوار روحي مع الشيخ زايد لتجاوز حدود الزمان والمكان، مما أهداني إدراكاً أعمق بالجوهر الروحي لهذا البلد الشاب.
يقال «روما لا تُبنى في يوم واحد»، ولكن وجدنا أن الإمارات استطاعت تحويل الصحراء وقرى الصيد والقبائل البدوية إلى مدن حديثة خلال السنوات الخمسين المنصرمة، وتخلصت تماماً من الفقر لتغدو«لؤلؤة الشرق الأوسط» بكل معنى الكلمة. فعلى مدى الخمسين عاماً الماضية، قفز إجمالي الناتج المحلي الإماراتي من 6.5 مليار درهم إلى 1.5 تريليون درهم بزيادة 230 مرة، متربعة على المركز الثلاثين الأولى اقتصادياً في العالم. وفي السياق ذاته، زاد نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي للمواطنين الإماراتيين من دون 1500 دولار أميركي إلى 360 ألف دولار أميركي، مما جعلها أغنى دولة توفر أفضل مستوى للمعيشة، ويعمّها الازدهار والرخاء والسعادة والرفاهية. لعلّ البعض يرى الإمارات ك«صاحبة نعمة النفط»، لا أشاركهم في هذا الرأي. إذ يتمتع عدد كبير من الدول بموارد النفط والغاز الوفيرة، غير أن بعضها تقع أسيرة الحروب والنزاعات والاضطرابات، والقليل منها حقق نمواً حقيقياً. أما الإمارات، فهي من أنجحها دون أدنى شك.
هذا وتُعزى معجزة نمو الاقتصاد الإماراتي إلى بصيرة وحكمة قيادتها، وكدّ وذكاء شعبها، بما يمكّن هذا البلد الشاب من اغتنام فرصة التنمية بحزم، وتوظيف «أول وعاء من الذهب» المكتسب من موارد النفط لتحقيق تحول ناجح في «عصر ما بعد النفط»، استناداً إلى المواهب المتميزة في الأعمال التجارية وروح الابتكار الجريئة.
أولاً، واستفادةً من الموقع الجغرافي المتميز، والأسواق الواسعة التي تغطي آسيا وأفريقيا وأوروبا، قامت الإمارات بتشييد الموانئ، وتطوير المناطق الحرة وتجارة إعادة التصدير. قد احتلّ ميناء جبل علي المركز العاشر عالمياً من حيث الطاقة الاستيعابية لسنوات متتالية، وصُنّف «ميناء خليفة» في السنوات الأخيرة كواحد من أكبر 100 ميناء عالمياً، مما جعل الإمارات من أهم مراكز التجارة والشحن البحري في الشرق الأوسط.
ثانياً، اعتماداً على الموقع المتميز للنقل الجوي المتمثل في تغطية ثلث سكان العالم في رحلة طيران مدتها أربع ساعات، وثلثي سكانه في مدة لا تتجاوز ثماني ساعات، تعمل الإمارات على تطوير قطاع النقل الجوي. إذ لاقت كل من شركتي طيران «الإمارات» و«طيران الاتحاد» شهرة عالمية، أصبح مطار دبي الدولي أكثر المطارات ازدحاماً في العالم، بالتوازي مع تحقيق تطور متسارع لمطار أبوظبي الدولي، مما جعل الإمارات مركز الطيران العالمي.
ثالثاً، انتفاعاً من «فراغ التداول» الناتج عن فارق التوقيت بمقدار أربع ساعات بين الإمارات وكل من لندن وهونغ كونغ بكونهما مركزين ماليين دوليين شرقاً وغرباً، قامت الإمارات بإنشاء مركز دبي المالي العالمي وسوق أبوظبي العالمي، وصياغة النظام القانوني المتكامل والسياسة التفضيلية للإعفاء والتخفيض الضريبي، مما جعل الإمارات مركزاً مالياً في الشرق الأوسط.
رابعاً، استناداً إلى البنية التحتية المتقدمة وبيئة الأعمال التجارية الفريدة، استحوذت الإمارات على المرتبة الـ16 عالمياً وفقاً لتقرير ممارسة أنشطة الأعمال لسنة 2020 الصادر عن البنك الدولي، حيث تقدمت على كل الدول العربية للعام السابع على التوالي. تواجدت أكبر 500 شركة عالمية في الإمارات، مما جعلها مقراً إقليمياً مفضلاً لدى الشركات متعددة الجنسيات.
عقب خمسين عاماً من السير على درب التنمية بنجاح، كسبت الإمارات اليوم الرهان في التنمية المستقبلية. يزدهر الاقتصاد المتنوع القائم على المعرفة والابتكار في الإمارات، حيث تتقدم السياحة وتجارة التجزئة والعقارات والتصنيع والطب والإنترنت والتكنولوجيا المتقدمة على قدم وساق، وتراجعت نسبة مساهمة قطاع النفط والغاز في الناتج المحلي إلى أقل من 30%. هذا بالضبط كما قال صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة «إذا كان استثمارنا اليوم صحيحاً أراهن بأننا سنحتفل عند تصدير آخر برميل نفط».
وبدوره، تغمرني وأنا كسفير صيني لدى الإمارات، النشوة والاعتزاز بإنجازات مرموقة حققتها الإمارات خلال الخمسين عاماً الماضية. وبفضل تشابه الطريق التنموي وترابط مفهوم التنمية وتجانس الأهداف التنموية، قد أصبحت الصين والإمارات صديقين عزيزين وأخوين وشريكين موثوقين يتكامل بعضهما مع البعض في التعاون الإنمائي. حافظت الصين على مكانتها كأكبر شريك تجاري للإمارات، وأصبحت الإمارات ثاني أكبر شريك تجاري وأكبر مستورد للصين في غربي آسيا وشمالي أفريقيا منذ سنوات عديدة. وعلى صعيد آخر، يسير التعاون الثنائي في إطار مبادرة «الحزام والطريق» بخطى واثقة، حيث يتقدم بسلاسة مشروع ميناء خليفة والمنطقة النموذجية الصينية الإماراتية للتعاون في الطاقة الإنتاجية وغيرها من المشاريع الثنائية الرئيسية. وفي عام 2020، بلغ حجم التجارة الثنائية 49.3 مليار دولار أميركي بزيادة تقدر بـ1.13%، متحدياً التداعيات الخطيرة التي تسببت بها جائحة كورونا، بما يبرهن على المرونة والإمكانيات القوية لتعاون البلدين في مجال الاقتصاد والتجارة. هذا وفي ظل تشابك وتلاحم المصالح بين البلدين، يبشر مستقبل العلاقات الصينية الإماراتية بآفاق واعدة وثمار يانعة.
في يوم 16 مارس الماضي، أعلن صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات رسمياً عن إطلاق فعاليات للاحتفاء باليوبيل الذهبي لدولة الإمارات. حين رأيت صورة الشيخ زايد التي توشح بها مبنى شركة بترول أبوظبي الوطنية في مساء اليوم نفسه، لم أتمالك نفسي عن القول: «ها هو بلد عظيم حلمتَ به».
* سفير جمهورية الصين الشعبية لدى دولة الإمارات العربية المتحدة