للعالم نوافذ كثيرة، حتى قبل اختراع الطائرة و«الإنترنت» الذي جعله يكاد يكون غرفة واحدة. بعض هذه النوافذ في السياسة، وأخرى في الاقتصاد، وثالثة في الثقافة والقيم. وتتوزع النوافذ هذه على المطامح والمطامع، بعضها مربوط بشغف المعرفة، حيث يريد الغرب أن يرى الشرق، والعكس، وبعضها وثيق الصلة بالنزعات الاستعمارية. لكن مهما تبدلت المقاصد والأهداف والتصورات والاستراتيجيات، هناك ما بقي في العالم الحديث والمعاصر، يمارس الأدوار كلها، ويمس الأهداف جميعاً، بلا انقطاع، على رأسه قناة السويس.
وفق قاعدة أن ما صار مألوفاً لا يلفت الانتباه كثيراً، بقيت هذه القناة في نظر العالم شيئاً مفروغاً منه، فلا أحد ينشغل بحجم التجارة التي تمر منها، ولا يعرف كثيراً عن هيئتها الإدارية وملاحيها ومرشديها وما تدره على البلد الذي تكون فيه من دخل، ولا ما جرى لها منذ افتتاحها عام 1869 وحتى الآن، إلى أن وقعت كارثة شحط وحشر سفينة «إيفرجيفن» العملاقة في مجرى القناة وتمترسها بعرض مياهها لتعوق سير غيرها، فتتكدس السفن التجارية عن يمينها وشمالها، ويحبس العالم أنفاسه، وتتجه الأنظار جميعاً إلى مصر: هل هي قادرة على عبور هذه الأزمة؟
بينما كان السؤال مطروحاً، كانت الأرقام تتوالى في كل اتجاه، فالنفط ارتفع فور الإعلان عن هذه «الجلطة المرورية» الخطيرة، وغير المسبوقة في تاريخ القناة، وكذلك قطع غيار السيارات، وكثير من السلع. وعلى هامش هذا، بل في المتن، تم تثبيت رقم معبر جداً يتمثل في قيمة ما يعبر القناة يومياً من سلع، في الذهاب والإياب، بين الشرق والغرب، فعرف كثيرون أنه يقترب من عشرة مليارات دولار يومياً، ما يعني 3.6 تريليون دولار سنوياً، قابلة للزيادة. وفي ركاب هذا بدأ الحديث عن أرقام أخرى تتعلق بالتعويضات التي يجب الحديث بشأنها، والتفاوض حولها، بعد تحقيق في الحادث.
لم يكن أغلب الشعب المصري منشغلاً بهذه الأرقام، فهو على الأقل يعرف أن قناة السويس تمثل مصدر دخل مهماً للبلاد، إنما كان مجذوباً إلى «التحدي» الذي فرض عليه، بغض النظر عن أسبابه، وما إذا كان مقصوداً أم بفعل خطأ بشري أو بسبب سوء الأحوال الجوية، وكان متطلعاً إلى «الاستجابة»، وراح كل يدلو بدلوه، كعادة المصريين في الملمات والخطوب التي تواجه بلدهم العريق. كان من بين هؤلاء خبراء مصريون في النقل البحري وهندسة التربة والتجارة الدولية، ويبدو أن هيئة قناة السويس كانت منصتة إلى كثير من الاقتراحات حتى استقر بها المقام بعد ساعات طويلة من محاولة تحريك السفينة عبر الشد، إلى تجريف ما تحتها من تربة، وعلى التوازي كان هناك من يقترح تفريغ جزء من شحنتها لتطفو قليلاً، في انتظار المد الذي كان آتياً بعد جزر استمر لأيام، لكن بقي هذا خياراً مؤجلاً نظراً لتكلفته العالية وما سيأخذه من وقت.
كانت الأزمة فرصة لاختبار مدى استمرار قيمة التعاون والتماسك التي يلتزم بها المصريون وقت الأزمات، وهذا هو المعنى العميق الذي بقي مما جرى، إذ كان بعض معارضي السلطة الحالية في مصر أسبق من مؤيديها في تقديم الاقتراحات، كل حسب خلفيته العلمية، وتولوا الدفاع عن البلد في وجه بعض الشامتين، الذين يحولون خلافهم مع الحكم إلى نقمة على الدولة بأسرها، ويتمنون لها الشر، أو على الأقل يفرحون في عجزها.
لقد كسبت مصر الرهان في تحدي السفينة إيفرجيفن، لاسيما أن التعويم تم في أغلبه بتفكير وسواعد مصرية خالصة. ويبقى على السلطة في مصر أن تسعى إلى تحويل هذه المشكلة إلى فرصة، وتجيب على سؤال مهم هو: كيف يمكن تعزيز دور قناة السويس في النقل البحري الدولي، بعد أن ثبت للجميع أنها شريان حيوي لا يمكن الاستغناء عنه؟