عندما تسلم الرئيس جو بايدن السلطة، ورث كارثة في السياسية الخارجية في أفغانستان. فقبل عام من الآن، تفاوض مبعوثو سلفه مع حركة «طالبان» حول اتفاق يقول إن آخر الجنود الأميركيين سيغادرون البلاد بحلول الأول من مايو المقبل، وهو موعد تفصلنا عنه ستة أسابيع فقط، والانسحاب في ذاك التاريخ سيعني انهيار الحكومة المنتخبة التي ساعدت الولايات المتحدة على خلقها. وبالمقابل، فإن قراراً بالبقاء بعد مايو من شأنه أن يعرّض القوات الأميركية المتبقية لخطر استئناف «طالبان» هجماتها.
المسار الحكيم بالنسبة لبايدن كان سيكمن في الإبقاء على الجنود الأميركيين في أفغانستان، وانتقاد «طالبان» حين تنتهك الاتفاق، والتفاوض حول اتفاق أقوى وأكثر ديمومة. وعلى كل حال، فوفق مذكرة بتاريخ 4 يناير من المفتش العام لوزارة الخزانة، فإن «القاعدة» حالياً بصدد اكتساب قوة في أفغانستان بينما تواصل الاشتغال مع «طالبان» تحت حماية هذه الأخيرة. واتفاق فبراير 2020 يلزم «طالبان» بإصدار تعليمات لأعضائها بإنهاء التعاون مع «القاعدة» ومتابعة الأشخاص والمنظمات التي تهدد الأمن القومي الأميركي. وهذا يفترض أن يكون كافياً لجعل التاريخ الذي حدده الاتفاق غير ذي أهمية.
لكن للأسف، يبدو أن إدارة بايدن اتخذت قراراً يمنح الولايات المتحدة أسوء جوانب الخيارين. ذلك أن بايدن يقول الآن إن احترام تاريخ الأول من مايو لسحب الجنود سيكون «صعباً»، لكنه يتوقع أن القوات الأميركية لن تبقى في البلاد لفترة طويلة جداً. وبعبارة أخرى، فإن القوات الأميركية ستبقى في أفغانستان، مواجِهةً بذلك خطر جولة جديدة من الهجمات التي اعتادت عليها «طالبان». لكنها لن تبقى هناك طويلاً، ما يحْرم الولايات المتحدة من نفوذها المتقلص أصلاً لإرغام «طالبان» على الالتزام باتفاق 2020.
لا بل إن الأمر أسوء من ذلك في الواقع. ففي وقت سابق من هذا الشهر، أخبر وزير الخارجية أنتوني بلينكن زعماء «طالبان» والحكومة الأفغانية بأن بايدن يرى أن المسار الأفضل هو تسريع مفاوضات السلام. ولهذا الغرض، طلب من الحكومة التركية استضافة محادثات سلام خلال الأسابيع المقبلة. وفي رسالة إلى الرئيس الأفغاني أشرف غني، كتب بلينكن أن الهدف من المحادثات هو «حمل كل الأطراف على احترام التزاماتها». والحال أن هذا يجعل الأمر يبدو كما لو أن الجانبين يتقاسمان مسؤولية تصعيد الوضع الأمني في أفغانستان، في حين أن «طالبان» هي التي تكثّف هجماتها على المدنيين الأفغان.
والأدهى من ذلك هو أن الحكومة التركية ليست حكماً محايداً. وبالتالي، فإن محادثات السلام المقبلة ستمنح «طالبان» نوعاً من امتياز «اللعب في ميدانها». كما أن اختيار تركيا لتكون مكاناً للمحادثات سيُعد مكافأة لأردوغان.
والمزعج أيضا هو دعوة بلينكن الأمم المتحدة إلى استضافة مؤتمر دبلوماسي رفيع المستوى للولايات المتحدة وجيران أفغانستان. ففي رسالته إلى غني، كتب بلينكن يقول: «إنني أعتقد جازماً أن هذه البلدان تتقاسم مصبحة مشتركة في استقرار أفغانستان، ويجب أن تعمل معاً حتى تنجح». غير أنه من بين المشاركين في هذا المؤتمر روسيا، التي اتهمها بايدن في أكثر من مناسبة بالعمل مع «طالبان» على تخصيص مكافآت لقتل الجنود الأميركيين، وباكستان التي لطالما اتهمتها أفغانستان بإيواء قيادة «طالبان»، وإيران التي استضافت الزعيم السياسي لـ«طالبان» من أجل مشاورات في يناير.
كل هذا يُبرز المشكلة الأساسية لمقاربة بايدن لأفغانستان (وهي أيضاً مقاربة دونالد ترامب): أن «طالبان» هي سبب أزمة أفغانستان. وإلى هذا اليوم، تعتبر الحركة نفسها الحكومة الوحيدة للبلاد، وتخوض حرباً شرسة على أي أفغان يخالفونها الرأي، من دون مراعاة لحياة المدنيين. ومن الوهم الاعتقاد بأن «طالبان» ستوافق على تقاسم السلطة مع حكومة غني المنتخبة عندما تنسحب القوات الأميركية المتبقية من البلاد. والحال أن ذلك هو ما يقوله اتفاق السلام المفترض الذي ورثه بايدن.
ولعل المسار الأفضل لبايدن والولايات المتحدة وأفغانستان هو الاعتراف بأن هذا الاتفاق ما كان لينجح أبداً، وأن بضعة آلاف من القوات الأميركية المتبقية في البلاد يمكن تحريكها من دون صعوبة. وقد وجدت دراسة حديثة من «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» أن الكلفة الأميركية السنوية لالتزامها تجاه أفغانستان تتراوح بين 10 مليارات و20 مليار دولار. وهذا أقل من ثلث الميزانية السنوية للحرب على الإرهاب، ورقم صغير من إجمالي الميزانية العسكرية الأميركية. كما أنه ثمن صغير ينبغي دفعه من أجل منع هجوم مقبل على شاكلة هجمات 11 سبتمبر. أما البديل، فهو تصديق أن «طالبان» لن تسمح بتحول أفغانستان إلى ملاذ آمن للإرهاب الدولي، ولكن هذا ليس خياراً على الإطلاق.
*محلل سياسي أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»