يُثير تسلُّم حكومة وحدة وطنية مهامَّها في ليبيا الأسبوع الماضي، بعد انقسام شَطَر البلاد ومؤسساتها وفتح شهية الطامعين فيها، سؤالاً ملحاً عما إذا كانت الإجراءات التي بدأت بمنح مجلس النواب الثقة لهذه الحكومة، في 10 مارس الجاري، ثم أدائها اليمين الدستورية أمامه، تُمثَّل بداية مرحلة جديدة يتطلع إليها الشعب الليبي.
تمتد المرحلة التي بدأت الأسبوع الماضي حتى 24 ديسمبر المقبل، وهو الموعد المُقَّرر لإجراء انتخابات عامة، أي أنها مرحلة انتقالية. والحال أن ليبيا تعيش في حالة انتقال مستمرة اختلفت خصائصها من وقت إلى آخر على مدى عشر سنوات الماضية. بقيت ليبيا طول هذا العقد أشبه ما تكون بسفينة تتلاطمها الأمواج، وتبحث عن شاطئ أمان فلا تجده. وكلما بدا أن بعض قواها الوطنية التي تضم رجالاً وجنوداً مخلصين لوطنهم قطعوا شوطاً باتجاه الوصول إلى هذا الشاطئ، تتعرض السفينة لأمواج جديدة تُبعدها عنه، أو لهجمات «قراصنة» يسعون إلى استنزافها.
ولهذا، فمن الطبيعي أن يكون السؤال عن مدى اختلاف المرحلة الجديدة التي دخلتها ليبيا مطروحاً، وأن يمثل هاجساً لليبيين المشتاقين إلى استعادة وطنهم، سؤال يحمل في طياته أملاً وخوفاً في آن معاً. أمل في أن يكون التوافق الداخلي، والترحيب العربي والدولي، بتولي مجلس رئاسي وحكومة جديدين مهامهما بدايةً لمرحلة جديدة حقاً تنقل ليبيا خلال الأشهر المقبلة إلى وضع مستقر، وتضع الأساس لبناء الدولة الوطنية. وخوف في الوقت نفسه من تداعيات ثقيلة لصراع متعددة أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومكوناته الداخلية والإقليمية والدولية، ومن حالة عدم ثقة يُخشي ألا يكون تجاوزها سهلاً، ومن أطماع قوى خارجية قد تحاول عرقلة الجهود التي ستبذلها السلطة التنفيذية الجديدة.
يستند الأمل في أن تكون حكومة عبد الحميد دبيبة على قدر الثقة فيها إلى فرصة يتيحها التوافق العام عليها، حال تمكنها من توظيفه لدعم عملها وتوحيد البلاد بحيث تكون حكومة وحدة فعلاً وليس اسماً فقط، ومن ثم إقناع القلقين من تركيبتها المستندة على توازنات جهوية أو مناطقية بأنها ضرورية للوصول إلى مثل هذه الوحدة. فالتوازن بين المناطق قد يكون عامل توحيد، أو سبباً في تفريق حسب الظروف المحيطة. وما دام الليبيون تفرقوا بما يكفي، واكتووا بنيران الفرقة، فقد أصبح ممكناً جعل هذا التوازن عامل توحيد يقوم على منطق إشراك الجميع ومشاركتهم في إعادة بناء بلدهم. ويدعم هذا الأمل أن وزراء الحكومة الجديدة جميعهم يستطيعون الذهاب إلى أي مكان في ليبيا، بعكس الحكومة السابقة.
ويتوقف المضي قدماً في تحقيق هذا الأمل على جدية الحكومة في العمل على إرساء الأسس اللازمة لبناء الدولة الوطنية التي طال افتقاد الليبيين لها، وحل مشاكل اقتصادية واجتماعية وصلت معاناتهم من تفاقمها إلى أقصاها، وتحقيق استقلال كامل عبر إخراج القوات الأجنبية والمرتزقة، وتفكيك الميليشيات المسلّحة وإنهاء وجودها ليس في شوارع ليبيا فقط، ولكن في نظامها الاقتصادي والاجتماعي أيضاً. فلبعض هذه الميليشيات شركات تابعة يتعين حصرها وكشف المستتر منها، وشبكات اجتماعية في مدن وبلدات عدة.
فلا دولة وطنية في وجود ميليشيات عادت اثنتان منها إلى الظهور رغم قرار صدر بحلهما في أكتوبر الماضي، واشتبكت قواتهما في اليوم التالي لمنح مجلس النواب الثقة لحكومة دبيبة، على نحو أكد أن قرار الحكومة السابقة بشأنهما لم يكن إلا حبراً على ورق.
إن مهمة تفكيك الميليشيات، إلى جانب إخراج القوات الأجنبية والمرتزقة، هي أٌم المهام التي يتطلبها بناء دولة وطنية. ولهذا حرص رئيس مجلس النواب عقيلة صالح على تذكير رئيس الحكومة بها في جلسة منح الثقة الأسبوع الماضي. وربما يرى البعض أن إنجاز هذه المهمة كاملةً بلا نقصان في ثمانية أشهر فوق طاقة حكومة انتقالية مثقلة بمهام أخرى. ومع ذلك فالاختبار الحقيقي والمعيار الأول لدخول ليبيا مرحلة جديدة من عدمه هو الشروع جدياً وبقوة في إنجاز هذه المهمة الأم، وإنهاء جزء منها على الأقل مثل إخراج المرتزقة والقوات الأجنبية، إلى جانب وضع الأسس اللازمة لتفكيك الميليشيات، من أجل حصر السلاح بين يدي الدولة والجيش الوطني والأجهزة الأمنية المعتمدة.
وستكون المرحلة التي دخلتها ليبيا بدءاً من الأسبوع الماضي جديدة حقاً بمقدار ما تقطع حكومة دبيبة شوطاً يعتد به في إنجاز هذه المهمة، والمهام الأخرى التي تقع على عاتقها، وفق أسس يمكن البناء عليها لتأسيس دولة وطنية لا مليشيات ولا قوات أجنبية ولا مرتزقة فيها.