في لحظة الإعلان عن مقتل قاسم سليماني، عادت للذاكرة الآحادية لحظة وصول روح الله الخميني إلى العاصمة الإيرانية طهران، وتلك الحشود البشرية التي أعلنت بداية فصل من تاريخ الشرق وصراعاته عبر العصور، (قد) تكون تلك لحظة عميقة بما يحمله الخميني من الصبغة الدينية، وما يكون عليه من تمثيل لملايين الاتباع الذين ارتضوا بكامل إرادتهم ولايته، أو غيرهم الذين أخضعوا لتلك الولاية. الأهم أن حرباً ضروساً نشبت بطريقة مذهلة في فكرتها وطريقتها، فلقد أطلق الخميني حربه المقدسة على الغرب. تماماً كما فعل ذلك من قبله مؤسس تنظيم «الإخوان» حسن البنا في مطالع القرن العشرين، ثم لحق به سيد قطب، وكلاهما يمثلان مدرسة عقائدية وطائفية واحدة، وكلاهما اعتبر الغرب عدواً، كما فعل الخميني بعدهما بعقود.
الخميني أدار مع الغرب حرباً يمكن اصطلاحها بـ «حرب الكلام»، توعد فيها بهزيمة أميركا وحرق إسرائيل، منتهزاً مشاعر عميقة من الحزن والانكسار العربي ما بعد نكسة 1967 وما خلفته من تأثيرات سياسية واقتصادية واجتماعية على دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. كانت فرصة مواتية للغاية لتدشين «حرب الكلام» وتخويف العرب السُنة بتصدير الثورة لأرضهم، التي كانت تعيش بدايات النمو، وما بعد الاستقلال الوطني، وتخوض مواجهة مع التيار الناصري، كذلك هي التصادمات التاريخية بين العرب والفرس، فكما يتهم أهل بلاد فارس بأن العرب غزوهم حاملين الإسلام. فالعرب استشعروا أن غزواً باسم تصدير الثورة سيزحف إلى أوطانهم، وبين الضفتين العربية والفارسية دارت رحى حرب الحضارات والأديان والطوائف. فكرة، مجرد فكرة، استطاعت دون غيرها أن توسع نطاق «حرب الكلام»، ومجدداً هي «حرب كلام» ليس إلا.
«يوم القدس» وغيره من المواعيد التي أطلقها الخميني، تماثل تماماً فتوى إهدار دم (الأديب الهندي الأصل) سلمان رشدي، ونقطة التماثل أن الحالتين، وإن بدتا متناقضتين، غير أنهما فكرتين تم توظيفهما بكل اللحظية المشحونة عاطفياً بطريقة تريدها الجماهير المغيبة ذهنياً، وهنا يمكن العودة لسنوات طويلة على أثر المظاهرات العارمة التي شهدتها المدن حول العالم، التي احتفت فيها دور النشر والمطابع بتحقيق مكاسب مالية من جراء شراء رواية (آيات شيطانية) لحرقها في التظاهرات، نعم لحرقها وهنا استدعاء للعقل في تدبر فكرة شراء أي كان، كتاباً أو ملابس، أو سيارة، أو حتى طائرة لحرقها وإطلاق الهتافات العالية حول النيران المشتعلة.
بديعة فكرة تصدير الثورة، والأبدع منها فكرة إصدار فتوى تكفير، والأكثر إبداعاً إعلان الحرب المقدسة في أوطان ليس لها في العير أو النفير، مجرد أفكار في سياق حرب الكلام للهروب من مواجهة الأسئلة العقلانية التي لا يحبها رجال الدين السنة والشيعة على حد سواء، فكما التقط الخميني الفرص لتشكيل الهالة الإضافية في حرب الكلام، حاول جهيمان العتيبي فعلها وفشل عندما استطاعت الدولة السعودية ببعدها الوطني هزيمة ووأد خميني آخر، بمواصفات مماثلة متشددة دينياً وطائفياً وتهرب من أسئلة العقل لافتعال حروب اللامنطق من مخزونات التصادمات التاريخية القديمة.
على مدار أكثر من أربعة عقود، دارت حرب لم تبقِ ولم تذر، كان فيها الشعارات عابرة بين العواصم والطوائف، فمن تصدير الثورة إلى «الربيع العربي» كانت الشعارات قادرة على أن تلتهم العواصم التي تشابهت في احتراقها، فلم تكن كابول سوى المدينة الأولى التي تدمرت في «حرب الكلام»، وتبعتها بيروت وغزة ودمشق وبغداد وصنعاء وحتى مدن أريد لها أن تحرق فنجت، وقد مسها شيء من اللهيب كما هي المكلا وعدن والقاهرة.
في كل «حرب الكلام»، تظل لحظة مقتل سليماني كالصرخة المدوية الباعثة لماهية الحقيقة. فكل الانكشاف حدث في لحظة، ومرت سنة دون أن يرتد الصوت الإيراني ليرد الثأر ويعلن الحرب على أميركا، التي يقول عنها الشيطان الأكبر، سنة مرت كان الثأر في بلاد العرب والقتل في أولاد العرب، وسلم أولاد العم سام من نار وثأر أهل فارس، فهذه هي الآيات الخمينية.
* كاتب يمني