انطلق مؤتمر ميونيخ للأمن الأسبوع الماضي افتراضياً، مع دفء حذر في العلاقات بين الرئيس الأميركي جو بايدن والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وأشار تقرير لصحيفة «نيويورك تايمز»، حول الحوار الودي بين الزعيمين، إلى النبرة الإيجابية العامة، معترفاً في الوقت نفسه بمقاومة ماكرون لودّ بايدن العابر للأطلسي، حيث دافع الرئيس الفرنسي بشدة عن مفهوم «الاستقلال الاستراتيجي» عن الولايات المتحدة، مؤكداً أن أوروبا لم يعد بإمكانها الاعتماد بشكل مفرط على الولايات المتحدة في وقت باتت تركّز فيه مزيداً من اهتمامها على آسيا، وخاصة الصين».
والواقع أن رئيساً فرنسياً بموقف متحسس إزاء «الناتو» ليس بالشيء الجديد، غير أن ماكرون ذهب أبعد مما ذهب إليه سابقوه في معاملة جوانب أخرى من الولايات المتحدة باعتبارها تهديداً لبلده. ففي نوفمبر الماضي، اتصل ماكرون هاتفياً بالصحفي «بن سميث» من «نيويورك تايمز» للتعبير له عن استيائه من الطريقة التي تغطّي بها وسائل الإعلام الأميركية الرئيسية إدارته. ووفق سميث، فإن «الرئيس (الفرنسي) كانت لديه مؤاخذات على وسائل الإعلام الأميركية: حول «تحيزنا»، وهوسنا بالعنصرية، وآرائنا حول الإرهاب، وامتناعنا عن التعبير عن التضامن، ولو للحظة، مع جمهوريته المطوّقة (بالتهديدات)».
وفي الخريف الماضي، فتح ماكرون وحكومته جبهة هجوم أخرى: معركة على العلوم الاجتماعية الأميركية. ففي خطاب ألقاه في 2 أكتوبر، حذّر ماكرون من تخلي الجامعات الفرنسية عن الأرضية الفكرية لصالح «التقاليد الأنجلوسكسونية القائمة على تاريخ مختلف، ليس تاريخنا»، بما في ذلك «بعض نظريات العلوم الاجتماعية المستوردة كلياً من الولايات المتحدة». وفي وقت لاحق من ذلك الشهر، حذّر وزيره للتعليم من أن «هناك معركة ينبغي خوضها ضد أفكار تولد في الجامعات الأميركية».
والأسبوع الماضي، أضافت الحكومة الفرنسية بعض الشدة إلى هذا الخطاب، وفق الصحافيين نوريميتسو أونيشي وكونستانت ميهو من «نيويورك تايمز»: ففي تصعيد لهجماتها على نظريات العلوم الاجتماعية التي تقول إنها تهدّد فرنسا، أعلنت الحكومة الفرنسية هذا الأسبوع اعتزامها فتح تحقيق في الأبحاث الأكاديمية التي تقول إنها تغذّي الميولات «اليسارية الإسلامية» التي «تُفسد المجتمع».
وباعتباري عالم اجتماع يشتغل بجامعة أميركية ويكتب بشكل منتظم بمنبر محسوب على وسائل الإعلام الرئيسية، أقول إنني يمكن أن أشعر بالإطراء كوني وزملائي نطرح هذا التهديد الوجودي للجمهورية الفرنسية الخامسة. غير أنني يجب أن أعترف بالحيرة والتشويش. فنظراً لأنني أعمل في قلب المنظومة الأكاديمية الأميركية منذ عقود، فإن فكرة كونها تطرح تهديداً لسوق الأفكار الفرنسي تصدمني باعتبارها عبثاً جامحاً.
ولعل المؤشر الأوضح هو زعم ماكرون بأن الأفكار الأميركية التي يعارضها، وبالتحديد فكرة ما بعد الاستعمار، هي اختراع أميركي. أول احتكاك لي مع تلك الأفكار تم حين كنتُ طالباً في أواخر الثمانينيات، وأتذكر عن تلك الفترة شيئين اثنين: أنني تلقيت أسوأ درجة في حياتي في تلك المادة، وأن تلك المادة كانت تتمثل أساساً في التفسيرات الأميركية لميشيل فوكو وجاك ديريدا. ولعله من نافلة القول إن هذين الرجلين فرنسيان.
لكن بعيداً عن الجذور الفكرية للنظريات، فإن «تهديد» نظرية ما بعد الاستعمار مختلَف عليه أيضاً. فالكتابات المنتقدة لـ«ثقافة الصواب السياسي» في الجامعات الأميركية عادة ما تندّد بالرقابة على الأصوات والأفكار. والواقع أن ذلك التهديد موجود، لكن التهديد الأكبر هو محاولات السلطات السياسية قطع النقاش. لذلك، تجدر الإشارة هنا إلى ما كتبه أحد الباحثين المتخصصين في أوروبا لحساب منظمة «العفو الدولية»، في نوفمبر الماضي، من أن «الحكومة الفرنسية ليست بطلة حرية التعبير مثلما تحب أن تعتقد». وبالمثل، أشار سميث في مقال له، الخريف الماضي، إلى أن «بعض التغطية (الأميركية) التي جرحت الفرنسيين، إنما كانت تعكس فقط آراء الفرنسيين المسلمين والسود الذين لا ينظرون إلى العالم بالطريقة التي تريدهم النخب الفرنسية أن ينظروا بها إليه». وفي هذا الجانب، يمكن القول إن فرنسا تبدو شبيهة بالولايات المتحدة إلى حد كبير.
وربما ينبغي تفكيك الادعاءات الفرنسية الرسمية حول التهديدات الثقافية الأميركية أيضاً. فمثلما تشير قصة خبرية حديثة لوكالة الأنباء الفرنسية، فإن بعضاً مما يجري هنا هو محاولة ماكرون بزّ مارين لوبين على اليمين خلال الفترة المؤدية إلى انتخابات 2022 الرئاسية.
وقد تكون التخوفات الفرنسية الرسمية بشأن الاتجاهات الأكاديمية مبنية على بعض الأدلة التجريبية، لكن لغة المسؤولين الفرنسيين لا تبعث على الاطمئنان. فحين طُلب من فريديريك فيدال، وزيرة التعليم العالي والبحث والابتكار الفرنسية أن تعرّف «اليسارية الإسلامية»، كان جوابها بعيداً كل البعد عن الإقناع. إذ أقرّت بأن «اليسارية الإسلامية» ليس لها تعريف علمي.. «لكن لها علاقة بشعور لمواطنينا، أولاً وقبل كل شيء». كما اعترفت بأن المشكلة غير منتشرة على نطاق واسع.
والواقع أن العلوم الاجتماعية صعبة بما يكفي كما هي، والتعريفات غير الواضحة التي تعتمد على «مشاعر» الناس فقط لا تساعد قطعاً. فعلى غرار تدهور مصطلح «إلغاء الثقافة» في الولايات المتحدة، يبدو أن مسؤولي ماكرون لا يستطيعون تحديد تعريف لـ«اليسارية الإسلامية»، فهم يعرفونها فقط حين يرونها.
فيدال قالت: إن التحقيق الفرنسي الرسمي «سوسيولوجي» ويتبع خطوط «عمل بحثي أو دراسة علمية». والحال أن الخطوة الأولى التي ينبغي القيام بها هي إعطاء تعريف مناسب لما يتحدثون عنه بعيداً عن المشاعر والحدس. وإلا، فإن علماء الاجتماع الأميركيين قد يخلصون إلى أن كل هذه العملية مجرد مناورة من قبل ماكرون يسعى من ورائها للحفاظ على السلطة السياسية.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»