كثيراً ما كُنت أكرر تعريفاً عن نفسي بأني رجل «ليبرالي» سياسياً و«محافظ» اجتماعياً، وهذا حقي على هذا الكوكب كإنسان يحدد خياراته الشخصية طالما هي لا تصطدم ولا تحاكم قرارات الغير مهما اختلفت، وحقي هذا هو ذات الحق الذي يملكه كل من هو نقيضي في تركيبته الشخصية.
في ماض قريب ربما تبلور الرعب فيه بداية تسعينيات القرن الماضي، كنا قد بدأنا نسمع أشرطة الكاسيت الديني عنوة وغصباً في السيارات العمومية والمحلات «الشرعية» في كثير من مدننا العربية، لقد كان غزواً «داعشياً» ناعماً يعمل على غسل الأدمغة بالتهديد والوعيد والدم وجهنم، وانتشرت ظواهر تأمر وتنهى مثل «قل ولا تقل» الدينية ومجموعات شرطة «غير رسمية» بين الناس تنهر وتؤذي كل ما لا يتطابق مع رؤيتها للعالم، ثم صرنا نشاهد مقاطع فيديو مع الألفية التكنولوجية تظهر «شرطة الأخلاق»، وهي تحرق الأفلام السينمائية أو الكتب، أو أي شيء يخالف منطقها ورؤيتها للعالم الذي نعيشه.
نعم، لقد كلفنا ذلك كثيراً من الدم والضحايا من الأبرياء فيما بعد، ونحن نواجه «دواعش» العصر وخوارجه، وقد تسلحوا بالبارود والتكنولوجيا نفسها في سبيل رؤيتهم «الأممية» للشعوب وتأميم الكوكب على نسق واحد يرونه. وللمفارقة تلك كانت رؤية ستالين ولينين وورثتهما من الشيوعيين الذي حاربوهم في أفغانستان.
حسناً أيها السيدات والسادة. نحن اليوم أمام «سلفية ليبرالية» أكثر نعومة في حد شفرتها القاطع، ترى مثلاً في خطابي لكم «كسيدات وسادة» خروجاً عن الصواب، لأن بين السيدات والسادة مجموعة أخرى غير محددة!
سلفية ليبرالية تستخدم «الصوابية السياسية» - Political Correctness، كأداة قمع ولجم كل صوت لا يعارض وحسب، بل ينتقد قوائم المنع والحظر «الصوابية الحديثة» سواء في السينما والفنون، أو حتى في طريقة الحديث واستخدام المفردات.
لا أعرف أين يمكن أن تصل تلك النيوليبرالية الحديثة في طريقها وهي تتغول في تطرفها؟ أين يمكن أن ننتهي مثلاً بكل قصائد الغزل وروايات العشق إذا وافقنا النيوليبرالية بأنها جميعاً تحرش جنسي، أو أن روميو وجولييت كانت علاقة سوية بالمطلق، وخالية من أي «مثلية جنسية» تجعلها مقبولة في معايير الحداثة الراهنة؟
هل سنحرق آلاف الأفلام السينمائية الجميلة والخالدة لأن «سكارليت أوهارا» في «ذهب مع الريح» لم تقع في حب شخصية من أصل أفريقي يؤديها الأسطوري سيدني بواتييه مثلاً؟
نحن أمام حملة «مكارثية» جديدة في الاتجاه المعاكس هذه المرة، حملة وقودها خيبة تاريخية ليسار مهزوم، وقد وجد في المعارك الأخلاقية ميداناً بديلاً عن المعارك السياسية التي خرج منها على شكل حطام.
لا تخيفني إدارة جو بايدن في خارطتها السياسية نحو العالم فتلك علاقات دولية قائمة على المصالح، لكن خوفي من هؤلاء المختفين تحت عباءة الإدارة «الديمقراطية» لفرض أجندة أخلاق واحدة على العالم، ومن يرفضها فهو «كافر خارج عن الملة»، بالضبط مثل «داعش»، وتماماً مثل الشيوعية.
*كاتب أردني مقيم في بلجيكا