إذا كنا نحاول منذ فجر النهضة العربية إثارة الفكر وبناء حركة تنوير جديد، فإن دور اللغة هنا يكون رئيسياً في إثارة معاني الألفاظ ونثر الغبار التاريخي عنها أو استعمال ألفاظ جديدة لتحريك المياه الراكدة، ولبعث الناس على التساؤل حول صحة الأفكار الشائعة والمسلمات الاجتماعية، وذلك مثل ألفاظ الطبيعة، المادة، الإلحاد، الجنس، الدين، السلطة.. وهي أقرب إلى المحرمات في الثقافة الشعبية، لا يجور الاقتراب منها أو تحليلها مثل «التابو». وفي مقابل ذلك تقبل ألفاظ أخرى مسموح الحديث عنها مثل: الروح، والإيمان، وألقاب الشخصيات التاريخية والسياسية. فالطبيعة في الذهن الشعبي لا قوام لها من ذاتها، ولا قانون ضابط لها، فهي فانية أتت من لا شيء وتنتهي إلى لا شيء، تأتي من عدم وتنتهي إلى عدم. وبهذا المفهوم لا يمكن السيطرة عليها أو معرفة قوانينها أو تعميرها. وقد اتُّهم الطبائعيون قديماً بالإلحاد لأنهم حاولوا جعل الطبيعة باقية، منظمة، عاقلة، فاعلة. أما لفظ المادة فمازال لفظاً مُداناً بنوع من التطهر الفردي والاجتماعي لأنه غير مقرون بالروح، ويؤدي إلى إنكار وجود الله كما قال الأفغاني في «الرد على الدهريين» وكما يفعل بعض الدعاة في الرد على «مادية القرن العشرين وإلحاده»! والطبيعة خاضعة لقانون ينتظم حوادثها، وموضوع للتأمل والتفكر لإدراك دلالتها وجمالها كما أثبت ابن رشد في فلسفته ومحمد إقبال في شعره. والمادة ليست قبحاً، وليست ضد الروح بالضرورة وقديماً عرّف «النظّام» الروح بالجسم المتحرك، والإنسان بالبدن المرئي. وحديثاً حاول البعض رد الاعتبار إلى النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية. وقد حلل الأصوليون العلل المؤثرة (أي المادية) في سلوك البشر لمعرفتها وللقياس عليها. وحاول التيار العلمي العلماني في الفكر العربي المعاصر الدعوة للعلم الطبيعي والمجتمع المدني. وتبرير نظرية النشوء والارتقاء، وتبرير المادة الغربية، لكنه ظل محاصراً مطروداً لأنه لم ينفذ بالجذور. أما الإلحاد فيشير به البعض إلى تيار في الفكر العربي يدعو إلى التنزيه ضد التجسيم والتشبيه كي لا يكون أداة للقهر في يد رجال الدين.
أما الجنس والدين والسلطة فهي المحرمات في الثقافة الشعبية رغم التفكير حولها في الأعماق دون الإفصاح، ورغم أنها بواعث للسلوك الفردي الجماعي.
مهمة عالم اللغة تحليل مثل هذه الألفاظ من أجل خلق حركة تنوير، وذلك ابتداءً من الحفر في اللغة. اللغة في النهاية ليست فقط مجرد أداة لتوصيل المعرفة، بل هي «اقتضاء فعل» بمصطلح القدماء الأصوليين. ذلك أن الإخبار نفسه فعل معرفي لتغيير الذهن. اللغة باعث على الفعل، ودافع على السلوك، وإلا كان القول طائراً في الهواء، مجرد أصوات وملء فراغ. وفي عام المجاعة كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص: «القوت، القوت. النجاة، النجاة» لفظان مكرران لا يعطيان خبراً بل يقتضيان فعلاً. وكلّما كثُر القول قل الاقتضاء، وكلما زاد الكلام نقص الفعل. والآيات القرآنية التي تبدأ بأفعال القول، مثل «قل» أو «قولوا»، إنما هي اقتضاء فعل. ومن ثم يتحقق ما نادى به الشيخ محمد عبده من قبل: «ما أكثر القول وأقل العمل».
ويدخل عالم اللغة في معارك الثقافة، ويحوّل مسارها من القول إلى الفعل، ومن الكلام إلى العمل.. عن طريق حفره في اللغة وتحليل الألفاظ، وليس كداعية سياسي أو مصلح ديني. فالفعل إحدى مقولات اللغة فيما يسميه علماء اللغة المعاصرون «جمل الاقتضاء». وقد يقال إن الانتقال «من اللغة إلى الفكر» تحويل لعالم اللغة إلى ميدان السياسة وإخراج لمجامع اللغة العربية من قاعاتها العلمية وعملها الأكاديمي إلى ميدان خارج عن اختصاصها. والحقيقة أن ذلك اختصار. فإما أن يظل البحث العلمي مجرداً عن سياقه الاجتماعي والتاريخي وإما أن يكون جزءاً من نهضة أمة وتطور اجتماعي وتحليل لثقافة الناس واستعمالاتهم اليومية للغة للقضاء على موانع التقدم وللمساهمة في إرساء قواعد التقدم ومنها اللغة. فاللغة قد تكون ستراً أو كشفاً، حجاباً أو استنارةً، ضيقاً أو اتساعاً. وقد يقال أيضاً إن هذه المهمة خارج إطار علم اللغة، بل هي أقرب إلى علم اجتماع الثقافة أو الانتروبولوجيا الثقافية. والحقيقة أن الثقافة لغة، وأن اللغة أصبحت علماً شاملاً، بل هي العلم الإنساني بالأصالة؛ فهناك علم اللغة النفسي، وعلم اللغة الاجتماعي، وعلم اللغة الأنتروبولوجي، وعلم اللغة التاريخي، وعلم اللغة الأخلاقي، وعلم اللغة السياسي، وعلم اللغة القانوني.. فلماذا يقتصر دور المجامع على علم فقه اللغة وحده؟
إن دور المجامع يتطور بتطور العلوم وإلا توقفت المجامع على فقه اللغة وتطورات علومها، فتزداد المسافة اتساعا بينهما ويضيع الناس، وتصبح لغة التداول متأرجحة بين الخاصة والعامة.
وقد يُقال أخيراً إن هذا الدور الجديد للمجامع يمارسه البعض وإن لم يكن على نطاق واسع. وقد يحتاج ذلك تصديقاً للحكم إلى دراسة مجلات المجامع عن طريق تحليل المضمون لمعرفة مدى تعبيرها عن دور المجامع القديم أو دورها الجديد.
*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة