قضي الأمر، وانتقلت السلطة في الولايات المتحدة من الحزب الجمهوري الى الحزب الديمقراطي. لا يعني ذلك مجرد انتقال شكلي من شخص دونالد ترامب إلى شخص جو بايدن، ولكنه يعني تحوّلاً جوهرياً وعميقاً في السياستين الداخلية والخارجية للولايات المتحدة.
التحول الداخلي ينعكس في الدرجة الأولى على قضية المواطنين الأميركيين المتحدرين من أصول أفريقية وعلى المهاجرين من دول أميركا اللاتينية. ولهذه القضية قصة طويلة. أما التحول الخارجي فينعكس بالدرجة الأولى على علاقات الولايات المتحدة بالصين المرشحة لاحتلال المركز الأول في الاقتصاد العالمي.
كما ينعكس على العلاقات مع روسيا التي استعادت موقع رأس الحربة في المواجهة مع واشنطن. أما الانعكاس الأكثر إثارة للجدل فهو مع الاتحاد الأوروبي الذي يجد نفسه واقعاً بين فكي كماشة اللاثقة بالنوايا الروسية الغامضة من جهة، واللااطمئنان إلى النوايا الأميركية المتغيرة من جهة ثانية. وأكثر ما ينعكس ذلك على العلاقات بين فرنسا وألمانيا.
تعامل الرئيس ترامب مع الاتحاد الأوروبي بفوقية، فانسحب من معاهدة باريس حول المناخ، وفرض قيوداً وضرائب على الصادرات الأوروبية، وهدّد بالانسحاب من حلف شمال الأطلسي (الناتو) بعد أن ندّد بالإتكالية الأوروبية على واشنطن في قيادة الحلف وفي تمويله. دفع هذا الموقف دول الاتحاد إلى البحث لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية عن معادلة جديدة للدفاع عن الأمن الأوروبي من خارج المظلة الأميركية. قادت فرنسا هذه العملية. وأطلق رئيسها ماكرون فكرة إنشاء الجيش الأوروبي الموحد. غير أن ألمانيا، رغم انزعاجها من مواقف وتصريحات ترامب، لا تنوي أبداً قطع «حبل السرّة» مع الولايات المتحدة.
ورغم أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بدأت جمع أوراقها استعداداً للتقاعد، فإن سياسة اللاقطيعة مع واشنطن تتمتع بحصانة سياسية لدى كل لأحزاب السياسية الألمانية.
ويعيد هذا الواقع إلى الأذهان التناقض في مقاربة العلاقة مع الولايات المتحدة بين الرئيس الفرنسي الأسبق الجنرال شارل ديغول والمستشار الألماني الأسبق كونراد اديناور. كان الأول يطالب بالتخلي عن المظلة الأميركية، فيما كان الثاني يقول: «لا أستطيع العيش من دون مظلة الأمن الأميركية، وإن أوروبا القوية لا تكون بديلاً بل حليفاً وشريكاً للولايات المتحدة». وهذا ما تردده اليوم وزيرة الدفاع الألمانية الحالية: «إن أوروبا ما تزال بحاجة إلى أميركا». فيما يدعو الرئيس ماكرون (الذي يحمّل نفسه مسؤولية القرار الأوروبي مع نهايات أيام ميركل) إلى أوروبا مستقلة أمنياً عن واشنطن.
وكانت بريطانيا بخصوصيتها تلعب دوراً وسطاً (وليس وسيطاً) بين فرنسا وألمانيا. لكن بريطانيا انسحبت الآن من الاتحاد الأوروبي. وراهنت على قيام اتفاق انكلوسكسوني ستراتيجي مع الولايات المتحدة، لكن نتائج الانتخابات الأميركية ربما تكون قد أطاحت بهذا الرهان.
من هنا تبدو أهمية اتفاق الدول الآسيوية الأربعة عشر بقيادة الصين حول التجارة الحرة. وهو الاتفاق الذي يكرّس الصين –لا الولايات المتحدة- الدولة الصناعية الأولى ليس في آسيا وحدها، وإنما في العالم كله. ثم إن هذا الاتفاق يجمع حوالي ثلث سكان الكرة الأرضية في تجمع اقتصادي واحد، مستبعِداً بحكم الواقع القوتين الأخريين: الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
ومن هنا تبدو بداية تبلور معالم صورة العالم الجديد، مما يفتح آفاقاً أمام العالم العربي للتحرك في كل الاتجاهات الآسيوية والأوروبية والأميركية بما يحفظ مصالحه وأمنه الاستراتيجيين.