يبدو أن التغيير الشامل الذي جرى ويجري في العالم اليوم، يستدعي تغييراً موازياً في عددٍ من المفاهيم والاعتبارات، فالتقسيم الجيوسياسي والجيواقتصادي الذي كان يجعل كل من إيران وتركيا جزءاً من إقليم الشرق الأوسط قد تغير كلياً، سواء بانحراف كل من هاتين الدولتين بخلق صراعٍ أيديولوجي دموي مع بقية دول الإقليم وتهديد عددٍ من الدول والتدخل في شؤونها أو احتلالها، أو من خلال تضارب المصالح السياسية والاقتصادية بين إيران وتركيا من جهة ودول الإقليم من جهة أخرى.
الإقليم، بمعناه البسيط هو «وحدات مرتبطة متماسكة متفاعلة مع بعضها البعض ليس من السهل تجزئتها». ومع أن «هوفمان» يرى أن النظام الإقليمي هو «نموذج العلاقات ما بين الدول القاعدية»، إلا أن «تشارلز ماكليلان» يرى النظام الإقليمي أنه «بنية لها عناصر مرتبطة ومتفاعلة مع بعضها البعض ولها حدود تفصلها عن بيئتها ومحيطها»، وكذلك يراه «هولستي» أنه «مجموعة من الوحدات السياسية المتعلقة - سواءً كانت قبائل أو دول أو إمبراطوريات - تتفاعل في ما بينها بانتظام، وفقاً لمسالك مرتبة»، وبما أن «الشرق الأوسط» يتم تداوله عالمياً باعتباره التقسيم السياسي والجغرافي الذي يشمل دول الخليج العربية الست، وكذلك الأردن وسوريا ولبنان والعراق ومصر واليمن وكذلك إيران وتركيا وإسرائيل، وهي تلك الدول التي تطل على البحر الأحمر والخليج العربي والبحر الأبيض المتوسط وبحر العرب، فإنه وفقاً لهولستي، فإن تفاعل وانتظام المسالك السياسية والاقتصادية بين إيران وتركيا وبقية دول الإقليم، قد تلاشى كلياً.
لسنا بصدد إعادة توليف شرق أوسط جديد، لكن بعد اتفاقيات السلام مع إسرائيل والمصالحة الخليجية في يناير 2021 والمحاولات التركية لغزو العراق بعد احتلال سوريا، والمناورات الإيرانية في الخليج العربي مؤخراً، فإن إعادة تحديد مفهوم الأمن الإقليمي، في المدارس العسكرية للإقليم، وكذلك في الدوائر السياسية الإقليمية والعالمية، بات لازمة وضرورة ملحة، بصياغة جديدة واضحة المعالم، حيث إن الأمن الإقليمي هو واحد من مستويات الأمن المتعددة، وقد تم تعريفه بأنه «اتخاذ خطوات متدرجة تهدف إلى تنسيق السياسات الدفاعية بين أكثر من طرف، وصولاً إلى تبني سياسة دفاعية موحدة تقوم على تقدير موحد لمصادر التهديد وسبل مواجهتها»، ولكن لم تقدم كل من إيران وتركيا أي خطوات تهدف إلى تنسيق السياسات الدفاعية، بل تحولت كل منهما، إلى خصم للإقليم ومصدر تهديد له، بدل أن تكون جارة أو صديقة أو حليفة، ولاستحالة هيمنة أي منهما على الإقليم، فأصبح من المحال حالياً تبني سياسة دفاعية موحدة معهما، ما يقضي بفسخ تلك الشراكة المفروضة بسبب وجودهما داخل الإقليم فقط.
بالطبع لدينا الأمن القومي العربي، لكنه وكما نعلم ما زال معطلاً بتعطيل اتفاقيات الدفاع العربي المشترك. ولدينا الأمن القومي الخليجي، ومع تماسكه والتفاعل بين أجزائه، إلا أنه يُنظر إليه كوحدة واحدة في الإقليم، وليس وحده الطرف الذي عليه تقديم وتمويل السياسات الدفاعية المشتركة، ومع أن مصر والأردن ليستا بعيدتين، وتتفاعلان مع الأمن الإقليمي بصورة مطردة، لكن الخلل الحالي في سوريا ولبنان، وكذلك هيمنة النفوذ الإيراني على القرار في العراق، يجعل من الصعوبة بمكان، وضع سياسات دفاعية موحدة، خاصة في ظل عدم إتمام اتفاقيات السلام، بين إسرائيل ودول في المنظومة الخليجية وكذلك مع العراق وسوريا ولبنان.
يقول «أوران يونغ»، إن «المجتمعات الإقليمية تظل أقوى من المجتمع الإنساني»، وهذا صحيح، ومع أنه يفتقد إلى العاطفة القومية، إلا أن التحولات الإستراتيجية الكثيرة، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى مروراً بالثانية ثم الحرب الباردة، تؤكد جميعاً أن «المجتمع الإقليمي»، كما يحدث في الاتحاد الأوروبي، هو أقوى النظم، التي تحافظ على كينونتها السياسية والاجتماعية والأمنية، ولابد من توحيد السياسات وإيجاد الصيغ والخطط والأهداف المشتركة.
يرتبط المجتمع الإقليمي للشرق الأوسط، بعوامل ثقافية نوعية وتماثل اقتصادي وجوار جغرافي، يجعله أكثر تجانساً، لو تراجعت إيران وتركيا عن التدخل في شؤونه، وقد يساعده ذلك على تخطيط ووضع رؤى دفاع موحدة مشتركة، سياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية، دون المساس بالخطط الوطنية لكل بلد على حدة، أو المساس بالرؤى القومية، التي تشترط تسريع المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وصولاً إلى حل الدولتين، والذي سيساهم أيضاً في تسريع جميع عمليات السلام الأخرى في الشرق الأوسط، بما يحفظ الأمن الإقليمي والاستقرار والهدوء والتنمية.