من أجل أن نعرف العالم ينبغي أن نعرف كيف نحسب ونحصي ونقيم جداول رياضية. ولم تشهد البشرية من قبل عمليات حساب مماثلة لما يقوم به الآن علماء وخبراء الرياضيات والإحصاء والهندسة، الأبطال المجهولون في الصفوف الأمامية من الحرب ضد جائحة «كوفيد-19»، وهم يقدمون للعالم إحصاءات يومية عن عدد المصابين الذي تجاوز 90 مليوناً، وعدد الوفيات الذي اقترب من مليونين، وكشفوا لنا تأثير أي قرار اتُخذَ أو لم يُتخذ للوقاية من الوباء. وكنتُ مشوشاً قبل معرفة رياضيات وباء «كوفيد-19»، وما زلتُ بعد معرفتها مشوشاً، لكن بدرجة أشدّ. وما العمل إذا علمنا أن كل شيء حولنا رياضيات، وكل شيء أرقام، ومن دونها يستحيل معرفة كارثة «كوفيد-19» وكيف يعصف بالعالم، وما المناطق والبلدان، التي ينبغي تجنب الذهاب إليها حالياً. ومن دون الرياضيات لا يمكن كشف مفارقة تاريخية عالمية عظمى، لا تُعرف بعد أسبابها، ومؤثراتها، وهي أن تحتل الولايات المتحدة الأميركية الغنية اقتصادياً وعلمياً المرتبة العالمية الأولى في عدد الوفيات بالوباء، وتبلغ أكثر من 372 ألفاً، فيما تبلغ الوفيات 150 ألفاً في الهند، حيث يعيش سُدس سكان العالم.
ولولا الرياضيات ما عرفنا حقيقة لا تُصدق، وهي أن النساء الجنس الأقوى، وأن نسبة الوفيات بينهن أقل بالمقارنة مع الذكور. ورغم أن عدد المواليد الذكور 105 مقابل كل مئة أنثى، تزيد أعداد الإناث ما بين عمر 6 إلى 8 سنوات عن الذكور، كذلك الأمر بالنسبة لمقاومتهن الوفاة بالفيروس، ولم يعثر العلم بعد على تفسير ذلك. وتُطمئن الرياضيات القلوب إلى أن الأطفال أحباب الله، فالوفيات بالفيروس دون عمر الحادية عشر نادرة جداً.
وكثير منّا قد شعروا بالسرور للتوقف عن دراسة الرياضيات منذ تخرجنا من المدارس، إلا أن «كوفيد-19» أقحمها في حياتنا بشكل عاصف، وجعل الأرقام والحسابات والإحصاءات تتحكم ليس فقط بمشاعرنا، بل بمشاريعنا العملية حد تغيير أو إلغاء خططنا في الإقامة والسفر والعمل، وصارت النمذجة الرياضية المبنية على أساس الحسابات والإحصاءات ونظرية الاحتمالات، أدوات حاسمة في البقاء، وعليها تُعوِّلُ المستشفيات والمؤسسات الطبية في معرفة ما إذا كانت تملك ما يكفي من أسرَّة وأنابيب أوكسجين طبي وأجهزة تنفس صناعي. وأي بلد لا يملك تقديرات لحاجته من هذه المستلزمات الطبية يلعب بالنار. والتقديرات والأرقام والإحصاءات وحدها لا يمكن أن تكشف حقيقة ما يجري بل تغطي أحياناً عليها. وكما يقول المثل الساخر «هناك الأكاذيب، والأكاذيب الملعونة، والإحصاءات».
وعمل العلماء حاسم في قراءة الأرقام، وشرح معانيها لعموم الناس وللمسؤولين. عالم الرياضيات البريطاني ديفيد سبلغهيلتر مُنح جائزة «فارادي» عن عمله في إيضاح إحصاءات الوباء، وفي ضرورة الاحتراس من الاستنتاجات الساذجة مما نسمعه من أرقام، ومعرفة ماهية الأرقام بالنسبة للأفراد والدول والعالم ككل، مثل تزايد خطر الوباء مع التقدم بالعمر، أو اختلاف الإصابات بين الدول. لكن سبلغهيلتر يتجنب تفسير تفوق الإصابات في بريطانيا على غيرها من الدول الأوروبية، وغير الأوروبية. ولا يُقيّم دور السياسة والسياسيين في بريطانيا، حيث ارتكبت أخطاء فتاكة، ليس فقط في التأخر باتخاذ قرارات جريئة، بل أيضاً في فساد بعض السياسيين. تكشف ذلك افتتاحية المجلة الطبية البريطانية the bmj وعنوانها «كوفيد-19 التسييس والإفساد وكبح العلوم». وتُستَهلُ الافتتاحية بالقول: «عندما يُكبحُ العلم الجيد بالمُجمّع العلمي السياسي يموت الناس». وتقول الافتتاحية: «يدّعي السياسيون أن هذا للصالح العام، للإسراع في توفير أدوات التشخيص والعلاج، ولدعم الابتكار وجلب المنتجات للسوق بسرعة لا مثيل لها، لكن كلا الادعاءين يبدوان ظاهرياً صحيحين، وتكشف الخداعَ الأعظمَ بذرةُ الحقيقة». وبذرة الحقيقة يجلوها قول «هنري بوانكاريه»، أحد أعظم علماء الرياضيات في التاريخ، إن «العلم يُبنى بالوقائع، كما يشاد البيت بالطابوق، لكن كوم الوقائع ليس بحد ذاته علماً، كما أن كوم الطابوق ليس بيتاً».