نلاحظ بالطبع على الخسائر الاقتصادية الهائلة بسبب جائحة «كوفيد-19»، لكنها بالتأكيد أنشأت أفكاراً واتجاهات جديدة في التقدم الإنساني المستمد من أولوية الصحة والتعليم، والإعلاء من شأن «الذات الفاعلة» باعتبار الفرد محوراً أساسياً في التنمية والإنتاج. ويقدم تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية لعام 2020 مؤشرات وأفكاراً مهمة وجوهرية حول النظر إلى التنمية باعتبارها نوعية الحياة وكونها الهدف الذي تتطلع إليه الأمم، ولذلك فإن النمو الاقتصادي وسيلة وليس غاية، بمعنى أن الأمم المتقدمة هي التي توجّه الموارد والإنفاق العام والخاص باتجاه نوعية الحياة، بما هي إضافة إلى معدل الدخل الفردي، في مجالات التعليم والصحة والتكامل الاجتماعي. وتتضمن كذلك قيماً مؤثرة وجوهرية في التقدم والتنمية، مثل المساواة والسلام والسياسات الإيجابية في مجالات البيئة والمناخ بما يخفِّض من التلوث والتصحر والهدر والنزف في الموارد الطبيعية.
وجاءت دولة الإمارات في المرتبة الأولى عربياً في التنمية البشرية (31 عالمياً)، تليها السعودية في المرتبة 40، وهذا يؤشر بالطبع على الكيفية التي تستخدم بها الدول مواردها لأجل تحسين الحياة لمواطنيها. فقد استطاعت دول الخليج العربي تحويل مواردها، وخاصة النفط، إلى تقدم اقتصادي واجتماعي انعكس في التعليم والصحة والمرافق العامة والسياسات الاجتماعية الإيجابية، وفي استثمارات اقتصادية جديدة ومتنوعة، بل وتقدمت في مجالات وقطاعات مثل السياحة بعدما كانت قبل فترة قصيرة تكاد تكون غير موجودة.
وفي المقابل فإن التقرير يشير أيضاً إلى دول تملك الموارد والفرص للتقدم، لكنها لم تنجز في ذلك بقدر ما يمكن للموارد أن تحققه. والمدهش أن دولاً مثل موريشيس في أفريقيا استطاعت أن تحقق مستوى متقدماً جداً في التنمية، وتفوقت على جميع الدول العربية عدا دول الخليج العربي، إذ جاءت في المرتبة 66 بمستوى من التنمية يعد مرتفعاً جداً.
وللمقارنة يمكن النظر إلى دولتين في المنطقة تقدمان عبرة أساسية ومهمة للعرب والعالم، هما إسرائيل وسنغافورة. فقد جاءت إسرائيل في المرتبة 19 بين دول العالم، وجاءت سنغافورة في المرتبة 11، وتفوقتا على كثير من الدول الأوروبية العريقة، مثل إسبانيا وفرنسا وإيطاليا.
وهناك دول عربية استطاعت في عقود سابقة أن تحقق مستوى جيداً من التنمية، ثم بدأت رغم النمو الاقتصادي والتنموي تواجه تحديات تهدد إنجازاتها ومركزها بين دول العالم. فبعد التقدم الاقتصادي والتنموي الذي أحرزته بدأت تتراجع في نموها، بل وتخسر على مستوى كثير من المؤشرات التي يمكن التقدم فيها من غير موارد إضافية. ورغم أنها مازالت تصنف في مستوى مرتفع من التنمية، لكنه مستوى متدن في سلم الدول مرتفعة التنمية، ويقترب من المتوسط.
وينظر التقرير إلى المساواة بمؤشرات رقمية واضحة تعطي الباحثين والمخططين خريطة طريق واضحة ومباشرة في تطوير التنمية والاهتمام بالقوة والضعف، مثل نسبة مشاركة المرأة في الوظائف والأعمال والمناصب ونسبة مستوى دخلها بالنسبة للرجال، ومدى حصولها على فرص الاستفادة من التقاعد والضمان الاجتماعي والتأمين الصحي. ويبدو واضحاً أن ثمة خللا كبيراً في الدول والمجتمعات العربية يؤشَّر إليه بالفجوة الكبيرة بين النساء والرجال في العمل والدخل والمشاركة السياسية والاقتصادية. والمؤشر الثاني المباشر والواضح أيضاً هو نسبة الفقراء والفجوة بين الأغنياء والفقراء في الدولة الواحدة في الدخل والتمتع بالمرافق العامة ومنافع التنمية، والفجوة في الرواتب والمكافآت في المؤسسات بين أعلى راتب وأدنى راتب.
ومؤكد بالطبع أن ذلك يعود على المحصلة النهائية للتنمية بالضرر والخسارة، لأنه يعني أن نسبة كبرى من الناس لا يتمتعون بفوائد وفرص التنمية في بلادهم.
*كاتب أردني