يصدر تقرير السعادة العالمي عن شبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة، وهو يتناول أكثر ما يزيد على مائة وخمسين بلداً، وذلك وفقاً لمسطرة دقيقة تأخذ بعين الاعتبار نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي والرعاية الاجتماعية ومتوسط الأعمار والحريات الاجتماعية والكرم وغياب الفساد. ونتذكر أنه في يوليو 2011، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً يدعو الدول الأعضاء إلى قياس مقدار السعادة في شعوبها للمساعدة في توجيه سياساتها العامة، وفي 2 أبريل 2012، عُقد الاجتماع الأول للأمم المتحدة رفيع المستوى حول «السعادة والرفاه.. تحديد نموذج اقتصادي جديد». وقد تضمن تقرير سنة 2020 لأول مرة مؤشراً خاصاً يصنف مستويات السعادة على مستوى المدن من خلال تقييم الأفراد لحياتهم بشكل عام، حيث شمل 186 مدينةً حول العالم. وتكمن أهمية هذا المؤشر في كون أكثر من نصف سكان العالم من قاطني المدن والتجمعات الحضرية التي تمثل مراكز الثقل الاقتصادية في كافة الدول ومركزاً لما نسبته 80 في المائة من مجمل الناتج القومي العالمي.
وتضمن تقرير السعادة العالمي دراسة تسلط الضوء على العلاقة بين أهداف التنمية المستدامة وجودة الحياة، عبر تحليل أداء الدول التي يشملها مؤشر السعادة العالمي، وهو المؤشر الذي يرصد جهود الدول حول العالم وجهوزيتها لتحقق أهداف التنمية المستدامة الـ17 «الأجندة العالمية 2030».
وفي فصل خاص ضمن إصدار سنة 2020، عرضت دراسة خاصة دور البيئة الطبيعية في رفع مستوى السعادة وجودة الحياة لدى الأفراد. وعرضت تحليلا لانطباعات الأفراد الذين تشملهم استطلاعات رأي السعادة، وأظهرت النتائج أهمية جودة وسلامة البيئة الطبيعية في دعم وتعزيز مستويات جودة الحياة في المدن والمجتمعات. وخلصت الدراسة إلى أن البيئة الطبيعية تلعب دوراً في رفع مستويات السعادة وجودة الحياة من خلال تقديمها للعديد من الفرص والتجارب الباعثة على السعادة.
آخر تقرير كان قد نشر قبل أن يظهر فيروس كورونا الذي أوقف العديد من الأنماط الحياتية المعتادة، ولا أدري كيف سيعتمد كُتّاب التقرير المقبل على المؤشرات التي يعتمدون عليها لحساب مقدار السعادة لدى الشعوب. فيكفي أن العديد من دول أوروبا تتحدث في الأيام الأخيرة عن «المناطق الحمراء» بدل الحديث عن المناطق الخضراء، إشارةً إلى زيادة منحنى العدوى خلال فترة عيد الميلاد.
ومنذ بداية إجراءات الحجر الصحي في العديد من دول العالم، قامت السلطات بالحد من التنقلات داخل البلد بل وداخل المدن. وتشير الدراسات السوسيولوجية النادرة في أوروبا مثلاً إلى انتشار حالة نفسية صعبة لدي العديد من شرائح المجتمع، خاصة بين الأزواج، وهو ما يؤدي إلى انتشار العنف المنزلي وكثرة حلات الطلاق. وتلخص كارولين دي هاس، عضو الائتلاف النسوي «نحن جميعنا» (Nous Toutes)، الوضع قائلةً: «غالباً ما تترافق الأزمات مع تصاعد معدلات العنف. فما بالكم بأشخاص يعيشون حجراً صحياً في منازلهم قد ينتقلون من العنف النفسي والمعنوي إلى العنف الجسدي والجنسي وحتى إلى ارتكاب جرائم قتل!».
ومما يزيد الطين بلَّةً أنه حسب تقرير أعدّته قناة «فرانس24» الفرنسية، فإنه إذ زاد الحجر الصحي المنزلي في فرنسا من العذاب اليومي للنساء المعنَّفات، فقد أصبح من الصعب جداً على هذه الفئة من النساء الخروج والتبليغ عن أزواجهن أو الاتصال هاتفياً بالجمعيات المختصة.
كما أنه في ظل امتلاء المستشفيات في أميركا وأوروبا، فإن الأولوية أعطِيت لمرضى كورونا على حساب المرضى الآخرين، وهو ما منع من إجراء عمليات جراحية ضرورية في وقتها، وأدى ذلك إلى وفيات.
في هذه الأجواء يصعب الحديث عن السعادة كما يتحدث عنها تقرير السعادة العالمي السنوي بمؤشراته المعتادة، ومن خلال حديثي مع زملاء لي في أميركا وأوروبا والعالم العربي خلال هذه الفترة، لاحظت أن أكثر الناس إيجابية وصبراً هم الذين يملكون إيماناً قوياً بالله تعالى، ويكون هذا الإيمان هو أسلوب حياتهم اليومي، فيتخذون كل الأسباب ويؤمنون بأنه بعد العسر يسر وأنه لن يغلب عسر يسرين.