قد يستغرب البعض من العنوان ويتساءل: ما علاقة الأمن الوطني بالدين والتدّين؟ وهذا السؤال هو جوهر الفجوة الكامنة في الفصل بينهما، كما أن هذا الفصل سبب من أسباب أمن واستقرار البلاد والعباد وتحقيق الأمم لمصالحها من منطلق عقيدة راسخة، التي تعد من القيم الراقية التي تعكس قيمة الدين في بناء أو هدم الأمم، لذلك هناك تضليل ممنهج من خلال المناداة في بعض المنابر بأن الدين والتدّين شأن خاص، وليس شأن دولة وحوكمة للمصلحة العامة، فكان ما كان من البحث المضني عن مخرج وحلولٍ عمليةٍ لهذه الأزمة التي نعيشها اليوم في عالمنا الإسلامي بشكل عام.
من جانب آخر، لا تخلو المجتمعات الأخرى من تداعيات هذه الأزمة، وإنْ كانت أقل حدة، حيث تمّ دمجها في سياسات وتشريعات وبعض دساتير تلك المجتمعات، ومن السذاجة أن نعتقد أن الدول الكبرى لا تتحرك بوازع ديني بجانب البُعد السياسي والأمني والاقتصادي، والأمثلة لا حصر لها سواء في الغرب أو الشرق، كما أن الأحزاب الحاكمة تكيّف أجنداتها السياسية والدبلوماسية بدوافع دينية، كمحور حراك رئيسي ضمن المحركات الرئيسية لتوجهاتها في الداخل والخارج.
ومن هذا المنطلق، أتوقع أن يحدث زلزال كارثي في خريطة المتغيرات السياسية في المنطقة، وخاصة في حكومات دول إسلامية كبيرة، قد تصل لمواجهات، من منطلق الأمن الإيديولوجي المرتبط بنوايا دينية عدائية، تحول دون ما هو مخطط له من عالم جديد لم ترصده عدسات المفكرين والسياسيين والمخططين الاستراتيجيين التقليديين، وهم غير عابئين بأهمية الفصل بين مفهوم الدين والتدّين، ومعضلة أن يكون الشخص المتدّين جاهلاً بأمور الدين أو يحور بعض الأمور من منطلقات ضيقة جداً، أو أن يكون الدين عنده مجرد ممارسة للعبادات والممارسات التي تُؤخذ باللفظ الحرفي وسحر البيان، والتي قد تُشير لدلالات ضمنية في نطاق محيط بيئة النص وليس عالميته في إطار مضامين جامعة للنوع البشري وأبعاد خلف الوعي الإنساني المباشر، وبالتالي قد يكون الشخص صاحب دين ولكن غير متدّين، والعكس صحيح، وذلك من منطلق أن الدين جاء ليكمل مكارم الأخلاق، والدين «المعاملة» ومظاهر التعبّد هي دقائق في حياة الإنسان، بينما المعاملات هي مجمل حياة الإنسان، وعندما تصبح تعاملاته هي عبادته، يصبح الإنسان متدّين. ويلامس الفعل الديني الإيجابي لديه مجالات عمارة الأرض وعبادة الخالق والعدل والمساواة بين البشر، وعدم الظلم والتعدي على الآخرين، وصدق القول، وحفظ النفس والعهد والأمانة وصفاء النية والسجية، وطهارة النفس قبل البدن، وسمو الروح قبل المظهر.
وفي سياق التخطيط للمستقبل بصورة علمية ومعرفية تجعلنا في مصاف الأمم المتقدمة، لابد أن نربط ذلك التخطيط بسياسات واستراتيجيات روحية، تصنع الفارق الأخلاقي والإنساني، والرد على منصات إكساب الفهم الديني صفة القداسة، وإنْ كان حتماً لن يوقف تطوير البشرية إلى «ما بعد الإنسانية» (Transhumanism) وما يحدث في العالم اليوم وسيحدث هو بداية وليست نهاية، وعليه من المهم منع اغتيال وخطف الدين العام وهو ما بين دفتي القرآن واستبداله بالدين الخاص، وهي جذور التدين كفكر وقناعات وممارسات تنسب ولم تكتسب إلا من خلال بوابة اتباع ما شرح وفسر من قبل بشر صفتهم النقص وعدم الكمال، وبالتالي نبرئهم من كمالية التأويل للنص الذي يتصف بالكمال، وعندما يلوم الله الرسل والأنبياء على ما ارتكبوه من أمور لم يرض عنها. فكيف تريدوننا أن نحمّل البشر العاديين، مهما كان علمهم، أمانة الفهم بالنيابة عن البشرية؟ وأن نرى فيهم العصمة في الفهم والتفسير! لذلك علينا أن ننتبه من التديّن الذي يريدنا أن نكون كالرهبان وتكون فيه الغاية تبرر الوسيلة، وعلينا أيضاً إدراك أن اللعب في الدين والمعتقدات والأفكار أساس الفوضى الخلاقة لتفكيك وإضعاف الأمة وإبقائها متفرقة.. وتلك هي المؤامرة الحقيقية.