دائماً توصف السياسة بأنها منزوعة الفضيلة، لأنها أحياناً تُحيّد الأخلاق في تعاملاتها الدولية، وتقرب البراجماتية و«الميكيافيلية» إلى ساحتها، وتنشر النفعية البحتة أو المصلحة المطلقة في دروبها، فصار من البداهة القول إن في السياسة لا توجد صداقة دائمة ولا عداوة مستمرة، ولكن مصالح مستدامة، وهي تقر درجة الخصام أو العداء أو نِسب الوئام.
بين هذه الشحنات السياسية التي قد يتصورها البعض من المثاليين سلبية، ونقول عنها نفعية، لأنها في الغالب يعلو فيها صوت الاقتصاد على سوط السياسة.
إلا أن هذه المعادلة لا تحرِم السياسة من فضيلة السلام، سواء بين الدول، أو بين مكونات المجتمع الواحد أو بين الإنسان نفسه. فلنأخذ هذه الفضيلة من حياة «دالاي لاما» الحائز على جائزة نوبل للسلام لمواقفه الإنسانية، وهو اليوم يمارس دور الداعي إلى السلم المجتمعي في كل العالم.
نقول في الوقت الذي تبدو فيه الصراعات الناجمة عن الكراهيات العرقية قائمة، توفرت للدالاي لاما الجرأة لأن يتصور خطة عامة لصنع السلام طويلة المدى، بحيث يأتي اليوم الذي تُحل فيه النزاعات «بالحوار، وليس بالحرب» - وبذلك إنهاء لتركيبة العقل القائمة على (نحن مقابل هم) على كل صعيد، بدءاً من الفئات الصغيرة وحتى الشعوب والأمم بكاملها.
يقول سبينوزا: «السلام ليس مجرد غياب الحرب، بل هو فضيلة، وحالة ذهنية، ونزعة إلى تحقيق الخير، وترسيخ الثقة وإرساء العدل»،
إن أبرز مشروع للسلام العالمي كان في إنشاء منظمة الأمم المتحدة وقبول مختلف الدول العيش المشترك تحت مظلتها، وهي الضامنة لعدم وقوع كارثة الحرب العالمية الكونية الثالثة.
وعلى ضوء ذلك، هناك عمليات السلام التي تمثل اليوم مكوناً مهماً في أنشطة الأمم المتحدة، إذ توظف مائة ألف إنسان، بميزانية تجاوزت 8 مليارات من الدولارات الأميركية في عام 2015. وبهذا الحجم من الضخامة، صارت لدى الأمم المتحدة بيروقراطية «سلام» لها مجموعة المصالح الخاصة بها، وقد نشرت منظمة الأمم المتحدة 71 عملية لحفظ السلام في شتى أنحاء العالم منذ عام 1948. وفي 30 يونيو 2020، بلغ عدد عمليات حفظ السلام المنتشرة 13 عملية ومنها 7 عمليات في أفريقيا. وتبلغ الميزانية الكاملة لعمليات حفظ السلام 6.58 مليارات دولار أميركي لفترة 2020-2021.
والذي يؤكد هذه الحقيقة ما يلفت نظر الداخل إلى أروقة هذه المنظمة الأممية، وعلى أحد الحوائط في المقر الرئيس للأمم المتحدة هناك عبارة للأمين العام الأسبق داغ هامر شولد: «لم تنشأ الأمم المتحدة للمضي بالبشرية إلى الجنة، ولكن لإنقاذها من الجحيم».
صدر هذا المنطوق في ذروة الحرب الباردة، ولا مجال للشك فيما كانت تعنيه بكلمة «الجحيم»: الحرب المدمرة بين القوى الكبرى.
لم تقع تلك الحرب، قط، ومارست الأمم المتحدة دوراً في الإنجاز المتمثل بتجنب الحرب المدمرة بين القوى الكبرى، فالتعاون في المؤسسات الدولية أمر بالغ الأهمية لجهة تحول الحرب بين الدول إلى أمر ولى زمانه. فالدول التي لديها آليات صنع السلام، هي الوحيدة القادرة على الاستمرار في
مشاريعها المستقبلية، يقول توماس بارنيت أحد الخبراء الاستراتيجيين في هذا الصدد، لقد علمنا أننا بحاجة إلى مقدرة أكبر داخل الصفوف الخاصة ببناء الوطن، صنع السلام وما شابه.
إننا من خلال توسيع تواصلية العولمة، نزيد السلام والازدهار على نطاق الكوكب. لقد كان من ثمار هذا السلام كما يذهب إليه ذات الخبير، أنه بعد الحرب الباردة، انتقلنا من شفير الحرب النووية إلى التعايش السلمي، فرأينا أن الاقتصاد العالمي بدأ بالتوسع خلال ثمانينيات القرن العشرين ليشمل ما يدعى بالأسواق الناشئة لأميركا اللاتينية وآسيا النامية. إن السلام ليس وهماً نبيلاً، أو يتوجب تبنيه باسم العقيدة ، بل هو سمة إنسانية دنيوية بسيطة، شيء نستطيع جميعاً ممارسته كل يوم، بصرف النظر عن معتقداتنا الروحية الشخصية.