ليس المنهج حكراً على شعب بعينه أو ثقافة بذاتها أو حضارة خاصة دون غيرها من الحضارات الأخرى، بل هو عام عند كل الشعوب ومعروف في كل الثقافات وموجود في كل الحضارات. ونظراً لسيادة الثقافة الغربية في العصور الأوروبية الحديثة وتصدرها ثقافات العالم حتى أصبحت مركزاً وثقافات العالم محيطها، فقد ارتبط المنهج بالفلسفة الغربية، وتوارت المناهج في الفلسفات الأخرى وذاعت المناهج الغربية، فازدوجت الثقافات غير الغربية بين مناهج غربية ومناهج وطنية، مناهج تجزيئية ومناهج كلية، مناهج تميز بين المنهج والموضوع ومناهج توحد بين المنهج والموضوع، مناهج صورية عقلية أو تجريبية من أجل المعرفة ومناهج تجمع بين المعرفة والسلوك، بين النظر والعمل، بين المعرفة والأخلاق والفن، بين الفكر والحياة.
وينشأ المنهج في كل حضارة بناءً على ظروفها وتاريخها، ومن خلال نشأتها وتطورها، وطبقاً لتكوينها وبنيتها. فالحضارة الغربية عُرفت بأنها حضارة المنهج لأنها في نشأتها القديمة سادها المنطق اليوناني خاصةً في العصر الوسيط بعد التحول من إفلاطون في عصر آباء الكنيسة إلى آرسطو في العصر المدرسي. وفي بداية العصور الحديثة بدأت القطيعة المعرفية بين الحاضر والماضي بعد أن اكتشف العقل وصدَّقته التجربة تعارض آرسطو وأقوال الآباء مع بداهة العقل والحس، وتم إسقاط الغطاء النظري المعرفي الموروث، وأصبح الواقع عارياً من كل نظرية، فتدخل العقل من أجل إيجاد بديل نظري والبحث عن طرق بديلة للمعرفة اعتماداً على اليقين الجديد، يقين البداهة العقلية والبداهة الحسية. ولولا هذه القطيعة المعرفية في بدايات العصور الحديثة لما نشأت الثورة المنهجية، ولما بدا هذا القلق المنهجي في الغرب.
أما في الشرق، في الصين واليابان والهند، فلم تحدث هذه القطيعة المعرفية بين الماضي والحاضر، وتبنّت الثقافات الشرقية نموذج التجديد والتطوير الذي انتهى إلى استبقاء المناهج التقليدية في الحياة الخاصة وتقليد المناهج الغربية في الحياة العامة. ولما كان الفن والصناعات الحرفية التقليدية وأساليب الحياة اليومية أقرب إلى الحياة الخاصة، فقد سادتها المناهج التقليدية التي لا تهدف إلى المعرفة وحدها بل أيضاً إلى السلوك، جامعةً بين النظر والعمل، بين النظرية والتطبيق. كما ارتبطت الأصالة بالمناهج التقليدية، وارتبطت المعاصرة بالمناهج الغربية. لقد أصبحت المناهج التقليدية تعبيراً عن الهوية، والمناهج الغربية تعبيراً عن الاختلاف، الأولى تعبير عن الصدق والثانية تحقيق للمنفعة.
ولفظ المنهج ليس غريباً على الحضارة الإسلامية، فقد ظهر في كتاب ابن رشد الشهير في صيغة الجمع «الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، والتعريف بما وقع فيها من الزيغ والبدع المضلة». فالمنهج هنا يعني الطريق، و«المناهج» هي طرق الاستدلال في فهم العقائد والتي تؤدي إلى التمييز بين الفهم الصحيح والفهم الفاسد، بين العقيدة والبدعة، وليس في الرياضيات والعلوم الاستنباطية أو في الطبيعيات والعلوم التجريبية. كما استعمل لفظ «نهج» في الثقافة الإسلامية كما هو الحال في «نهج البلاغة» المنسوب لعلي بن أبي طالب. ويعني أيضاً الطريق، طريق الكلام. والكلام ليس مجرد صوت بل هو تعبير عن فكر ورؤية ومعايير للسلوك.
وكما أن لفظ المنهاج ورد في القرآن الكريم: «ولكل جعلنا شرعة ومنهاجاً». واستُعمل لفظ المنهاج وليس المنهج. فالمنهاج هو الطريق أو الشريعة، في حين أن المنهج مجرد طريقة في الاستدلال. المنهاج أسلوب حياة، أو بالأحرى نظام أخلاقي واجتماعي وسياسي في حين أن المنهج أقرب إلى طريقة النظر.
وفي الحضارات الشرقية كان المنهج والموضوع شيئاً واحداً. فلا يوجد منهج مستقل عن الموضوع، آلة خارجة عن تطبيقها في ميدان. المنهج موضوع متحقق، والموضوع منهج مطبق. والوعي متحد بهما معاً. الموضوع يفرض منهجه بذاته، والمنهج يفرض موضوعه من ذاته. هكذا كان يفعل صانع الخزف في الصين، والرسام في اليابان، والمثّال في الهند، والفنان في مصر القديمة. وحدة المنهج والموضوع وحدة مبدئية، وحدة الذات والموضوع، الطريق والغاية، المقدمة والنتيجة، البداية والنهاية. وإذا وُضِع المنهج وُضِع موضوعه، وإذا وُضِع الموضوع فرض منهجه.
وفي الغرب بدأ المنهج معادياً للموضوع، لأن الموضوع كان معادياً للمنهج قبل العصور الحديثة. كان الإيمان تسليماً دون برهان، وكان آرسطو المعلم الأول، وكانت أقوال الآباء تعبيراً عن تجسّد الروح في التاريخ. ثم انهار كل ذلك بعد إعمال العقل والالتجاء إلى التجربة. ونشأت المناهج معاديةً لموضوعاتها في بداية العصور الحديثة. العقل متربص باللاعقل، والتجربة معادية للنظر. المنهج ضد الموضوع، والموضوع ضد المنهج. العقل لا يقبل إلا ما كان عقلياً متسِقةٌ مقدماتُه مع نتائجه. ووجد ضالته في الرياضيات. التجربة لا تقبل إلا ما كان محسوساً قابلا للقياس. فوجدت في المحسوسات والمجربات والظواهر الطبيعية ضالتها. مقياس الصدق في المنهج العقلي اتساق المقدمات مع النتائج، وفي المنهج التجريبي، تطابق الحكم مع التجربة. كان الموضوع ضد المنهج في العصر الوسيط، فأصبح المنهج ضد الموضوع في العصور الحديثة. ولم يقع الوئام بين المنهج والموضوع إلا أخيراً في الظاهريات أواخر العصور الحديثة، والحضارة الغربية وقتها على وشك الأفول، والعصور الحديثة على وشك غلق الأقواس.
وفي الحضارة الإسلامية تتأكد وحدة المنهج والموضوع كما هو الحال في الحضارات الشرقية. فالوحي، وهو الموضوع الأول لها، هو في نفس الوقت منهج العقل والبرهان نظراً لموافقة صحيح المنقول لصريح المعقول. والطبيعة أيضاً، الموضوع الثاني لها، تخضع لنظام العقل من خلال القانون. فنسق الطبيعة هو نسق العقل. والنظر في الآفاق وفي النفس يؤدي إلى نفس الحقيقة، وفي الأرض وفي النفس آيات اليقين. والتأويل هو أداة الربط بين العقل والوحي إذا ما بدا تعارض ظاهري بينهما من أجل التأكيد على وحدة المنهج والموضوع.
*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة