كان تزايد زخم التَّظاهرات تراكمياً، ببغداد ومحافظات الجنوب والوسط، وامتدت لإقليم كردستان، بدأت(2011) تَهبُ الضَّحايا، لتستمر بين جزرٍ ومدٍ، حتى ذروتها (25/10/2019)، وبين اغتيال وقتل مباشر قُطعت رؤوس ثمانمائة ويزيد، ناهيك عن الخطف والتشهير بالنساء، أما أسبابها، فليس لصاحب ضمير اعتبارها مؤامرة، وكأن الفساد لم يضرب نخاع الوطن، حتَّى وصل الحال إلى العجز عن دفع الرَّواتب، ولم يُذل المواطن كلّ هذا الذُّل، الحقَّ، أنَّ المؤامرة جاءت من خلال قتل المتظاهرين وتشتيتهم الخبيث، وليس بانطلاق التظاهرات، أنْ يُعفى رئيس وزراء مِن سَيل الدِّماء، ليأتي بمَن يصبح غطاءً للإسلام السِّياسي وبقية القوى، فإنه لا فاسدٌ كُفَ ولا قاتلٌ كُشف، بل أصبح الاغتيال والخطف مشاعاً، وأصبحت ميليشيات القتل مطمئنةً، والفاسدون يُقيمون بالخضراء بصفتهم الدَّولة العميقة، طالما هناك حكومة تُغطي قبحهم، تحمل لهم ما يُعبَر عنه بـ«فانوس اللُّصُوص». 
قُسّم العراق إلى رايَاتٍ، وكلُّ رايةٍ حكومة بذاتها، يُذكرنا المشهد بتشتت الدّولة الإسلاميَّة، بعد استعفاء معاوية بن يزيد بن معاوية (ت64هـ)، وكان رافضاً أن يكون لعبة لحكومات تلك الرَّايات، فأنفَ مِن وظيفة الغطاء للخراب، وهو لم يقدر على فعلِ شيء مِن الإصلاح، إلا أن يُقال له «خليفة»! تركها قائلاً: «إنَّي قد نظرتُ في أمركم فضعفتُ عنه»(الطَّبري، تاريخ الأُمم والملوك). 
وافت في موسم الحجَّ (68هجرية) عرافات أربعة ألوية: لواء الزُّبيريين، ولواء الأمويين، ولواء الخوارج، ولواء العلويين(المصدر نفسه)، هذا واقع حال العراق اليوم، كنَّا آملين لرئيس حكومته صراحة معاوية بن يزيد، لا القبول بواقع تعددت فيه الألوية أو الرَّايَات، وأضعف رايةً بينها أعلى ساريةً مِن راية حكومته، وبالتَّالي تصبح المهمة تمهيد الأرض لاستغفال العراقيين. 
على ما يبدو مِن المشهد أنَّ الوزارة الحاليَّة قَبل بها أصحاب الرَّايَات؛ كي تبقى راياتهم خفاقة، متمكنة مِن المال والدِّماء، ولكنهم احتاجوا إلى إطفاء التَّظاهرات، خصوصاً وأن مهندس ومخطط إبادتها قد قُتل، فلابد مِن طريقٍ آخر لإنجاز المهمة، بعد فشل الاغتيالات وضخها بالمندسين، ولم يعد صاحب التَّيار مقبولاً، فكان أول المطرودين، لا أدري، إنَّ كان المخططون أطلعوا على تجربة عبد الملك بن مروان(ت86هجرية) مع أخطر منافسيه عمرو الأشدق(قُتل69هجرية)، وخطورته لأنَّه كان أموياً، مثلما خطورة المتظاهرين اليوم، كون سوادهم الغالب شِيعة، يغص بهم الولي الفقيه وأحزابه داخل العراق، مع ما في قتل هؤلاء مِن احراج، فلا عذرُ طائفي، قال عليُّ بن بسام(ت302هجرية) ما يُعبَر به: «عَذرناكَ في قتلِكَ المسلميَّن/وقلنا عداوةُ أهل الملل/فهذا المناري ما ذَنبُه/ودينكما واحدٌ لم يزل»(المسعودي، مروج الذَّهب). 
هنا تعرت راية الدِّفاع عن المذهب الكاذبة! أمَّا ساسة السُّنَّة فقد رُوضِّوا بالمناصب، وتحولوا مِن تأييد «داعش» إلى الميليشيات، ويكفي سِماع خطبِ شيخهم الصُّميدعي، وسياسيو الكُرد تطربهم لعبة الرّايات تلك، ما زالت تدر ذهباً عليهم، حريصون أن يرضى عليهم الجاران الشّمالي والشَّرقي بخراب العراق، وتركه منهكاً بالطَّواعين. 
كان الأشدق أخطر المعارضين، لأنَّه مِن البيت نفسه، وسيطر على دِمَشقَ العاصمة، وبعد القتال انسحب إلى أطرافها، فطيب عبد الملك خاطره، وكان يُكنيه بأبي أميَّة، لتذكيره أنهما مِن بيت واحد، حتى استدراجه إلى القصر مع أصحابه، وعند الدخول عُزل الأصحابَ، فقال له عبد الملك: أقسمت عند مقابلتك أنَ أضعَ القيد في يديك، كي أبرر قسمي! وافق الأشدق مطمئناً للأمان والوعود، لكنّه اُستغفل وقُتل، ورُمي برأسه إلى أصحابه المتظاهرين عند البوابة، ورُميت معها أكياسُ الأموالِ، فانشغل الناس بالأكياسِ عن الرَّأس. 
أظن المشهد واحد، فالذين وُظفوا في رئاسة الوزراء كانوا مِن زملاء المتظاهرين، والمُحَمسين لهم، أمَّا المتظاهرون وضحاياهم فصارت رؤوسهم رأس الأشدق، مرميَّة مَع الرُّشى، ومدِّ سراب التَّغيير بالذِّهاب إلى انتخابات صار لها مستشارها الخاص، انتخابات، دون كشف الفاسدين بالثَّروات والدِّماء، ستأتي بقتلةِ المتظاهرين وحيتان الفساد أنفسهم، وبهذا ربحت قوى الخراب الجولة، بما حَقَّقها لهم الذَّاهب بالعراقيين في سراب الوعود! لكنَّ مَن يملك ضمير معاوية الثَّاني، ويأنف أنّ يصبح حارساً وفياً لجحور الأفاعي؟!