ودعت الكويت والمجموعة الخليجية والعالم العربي رمزاً كبيراً من رموز الزمن العربي الحاضر، هو الأمير الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، الذي خلّف رحيله حسرة عميقة في المنطقة كلها.
تقاطع مسار الشيخ صباح مع التحولات الكبرى التي عرفتها بلاده والإقليم بكامله منذ مطلع الستينيات، فكان دوره مؤثراً في كل الأحداث الحاسمة التي شهدتها المنطقة خلال خمسين عاماً الأخيرة.
ويذكر الشيخ الصباح في السياقات الثلاث الأساسية للتجربة الكويتية: النموذج السياسي، والنهضة الثقافية، والإشعاع الدبلوماسي الإقليمي والدولي.
كان الشيخ صباح موضع إجماع نادر في صفوف الطبقة السياسية الكويتية على اختلاف مشاربها واتجاهاتها، وقد استطاع طيلة فترة حكمه الحفاظ على المؤسسات الدستورية وتوازن السلطات، فجنّب بلاده الاضطرابات والهزات الداخلية، كما وسّع نطاق المشاركة السياسية في مراكز التمثيل والقرار بإدخال المرأة البرلمان ومجلس الحكومة والهيئات الديبلوماسية والقضائية، حدّثني مرةً أحدُ الوجوه السياسية الكويتية البارزة أن دور الشيخ صباح في تاريخ الكويت الحديث لا يقل عن دور الشيخ عبد الله السالم الصباح الذي قاد البلاد إلى الاستقلال ووضع أول دستور للدولة، باعتباره حافظ منذ توليه السلطة على استقرار البلاد وعمل على إنضاج تجربتها السياسية، ودافع عن مصالحها الحيوية في محيط شديد الاضطراب إقليمياً وعالمياً، فكان بهذا المعنى مؤسساً ثانياً للكويت.
وفي السياق الثقافي، يذكر الكويتيون جهود الشيخ صباح خلال فترة توليه وزارة الإعلام غداة استقلال البلاد في استراتيجية بناء مؤسسات فكرية وثقافية صلبة، كان تأثيرها وإشعاعها ممتدين إلى كافة البلدان العربية، ومن أبرز هذه المؤسسات مجلة «العربي» الشهرية التي كانت في الستينيات والسبعينيات من أهم أدوات الوحدة الثقافية العربية ومن المنتجات الفكرية الأساسية، وقد شكلت بالفعل مدرسة حقيقية لنشر الفكر الإنساني الجديد والتعريف بالتراث العربي الإسلامي وتقريب الأقطار العربية بعضها من بعض، وقد حدثتني شخصية فكرية مصرية معروفة أنها اكتشفت موريتانيا لأول مرة من خلال أحد استطلاعات مجلة «العربي» في بداية الستينيات، وأنها قرأت عن أدبها وشعرها في مقالة منشورة فيها للناقد المصري المعروف «طه الحاجري» ختمها بالسؤال: هل يمكن القول إن النهضة الأدبية العربية بدأت ببلاد شنقيط (الاسم القديم لموريتانيا)، بالنظر لما عرفته من طفرة شعرية قوية في القرن الثامن عشر الميلادي؟
استقطبت الكويت في تلك الفترة وجوه الثقافة العربية، واحتضن الشيخ صباح أوانها رواد التنوير العربي، وأصبحت جامعتها تنافس قلاع التعليم العربي في مصر ولبنان والعراق.
وفي المجال الدبلوماسي الذي استأثر بأهم محطات مسار الشيخ الصباح الذي تولى حقيبة الخارجية في بلاده أربعين سنة كاملة، عرف الرجل بثلاث ميزات نادرة هي: اللباقة الدائمة التي ترمز لها ابتسامته الشهيرة، والمرونة الخارقة التي منحته القدرة الفائقة على التقريب بين المواقف والآراء المتباعدة، والاطلاع الواسع على قضايا المنطقة والعالم.
وبهذه الميزات الثلاث، استطاع الرجل أن يكون رجل المهمات الصعبة في مراحل الاستقطاب السياسي الحاد، الذي عرفه العالم العربي في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، كما استطاع أن يكون أحد الوجوه الدبلوماسية العربية الأكثر نشاطاً وتأثيراً في الساحة الدولية.
وهكذا كان للشيخ صباح دور أساسي في البحث عن حلول لكل الأزمات الداخلية العربية، من حرب شطري اليمن والصراع الفلسطيني الأردني والحرب الأهلية اللبنانية، والحرب العراقية الإيرانية.
وعندما احتلت الكويت عام 1990، نجح الشيخ صباح في توظيف علاقاته الخليجية والعربية والدولية في مقاومة الاحتلال، بما أنجر عنه قيام تكتل واسع للدفاع عن الشرعية وتحرير الوطن المحتل، ورغم فداحة الخطب وعمق الجرح، ظل الشيخ صباح متشبثاً بالقضايا العربية، حريصاً على التقريب بين البلدان الشقيقة، مدافعاً عن الحقوق العربية في المنتديات الدولية، وكان دوره أساسياً في بناء المنظومة الخليجية أيام توليه وزارة الخارجية ثم إمارة البلاد، وقد عمل مع قادة دول المنطقة على توطيد الصرح الخليجي والدفاع عنه في مواجهة الاعتداءات والتدخلات الخارجية.
وفي الساحة الدولية، عرف الشيخ صباح بأنه رجل «الدبلوماسية الإنسانية»، وذلك لجهوده البارزة في دفع التعاون الاقتصادي مع مختلف دول العالم، وتقديم العون والمساعدة للمناطق المنكوبة، وتوفير الإغاثة العاجلة للمتضررين من المجاعات والأوبئة والحروب الأهلية.
رحم الله الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، زعيماً وطنياً بارزاً، وشخصيةً رائدةً من رواد التنوير العربي، ورمزاً فاعلاً من رموز الدبلوماسية العالمية.