هناك شبح يطارد أميركا –إنه شبح المؤامرة. اعتنق ملايين الأميركيين نظريات مؤامرة «كيو أنون» اليمينية المتطرفة (نظرية مؤامرة من ابتداع اليمين الأميركي المتطرف). النظريات التي تفترض أن الرئيس دونالد ترامب «يحارب عصابة من المخربين في الدولة العميقة»، وهي النظريات التي اعتبرها مكتب التحقيقات الفيدرالي بمثابة تهديد. ومع ذلك، فقد أصبحت شائعة لدرجة أن ترامب يرددها بانتظام. والآن، فازت «مارجوري تايلور جرين»، إحدى مؤيدي «كيو أنون»، في الانتخابات التمهيدية للحزب «الجمهوري» في الدائرة الرابعة عشرة في جورجيا.
في حين أن سرعة هذه النظريات وانتشارها هو أمر جديد بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أننا سبق وعشنا هذا من قبل. في الواقع، تتمتع الولايات المتحدة بتاريخ طويل من التفكير التآمري -من الهوس بالماسونيين والمتنورين في القرن التاسع عشر إلى حركة «حفل الشاي» مؤخراً. ونظريات المؤامرة حول جنسية باراك أوباما التي يدعمها ترامب. لكن التفكير التآمري أعمق بكثير من مجرد بضع لحظات متفرقة في التاريخ السياسي الأميركي. في الحقيقة، لطالما وُجدت نظريات المؤامرة كطريقة للأفراد لفهم التغيير الخطير والمزعج الذي يحدث من حولهم. وغالباً ما يتم العثور على أتباع من بين أولئك الذين هم على الجانب الخاسر من هذا التغيير. وكثيراً ما يتبنى السياسيون هذه النظريات التي قد لا يصدقونها ولمنهم يستخدمونها لصالحهم السياسي على أي حال.
وبعضٍ من أقدم نظريات المؤامرة في أميركا، التي اعتبرت أن المتنورين والماسونيين كانوا يسعون لتخريب الحكومات القائمة والمسيحية في كل مكان، كانت متجذرة في فرنسا ومن عمل مهاجر يسوعي سابق غير معروف وهو «أوجستين بارويل».
وُلد بارويل عام 1741 لعائلة نبيلة في فرنسا، وأصبح كاهناً يسوعياً وعمل بعد ذلك مدرساً حتى تم طرد اليسوعيين من فرنسا عام 1764. وأثناء النفي، سافر حول أوروبا كمدرس حتى عودته إلى فرنسا عام 1773. وبعد أن فر من فرنسا إلى شواطئ إنجلترا الأكثر أماناً في عام 1792، أصبح بارويل من المعارضين المعروفين لفلسفة التنوير الجديدة التي استولت بسرعة على أوروبا. وفي إنجلترا، قام بتأليف عمل من أربعة مجلدات منسية إلى حد كبير والذي، في روايته للثورة الفرنسية، سيفتتح الفهم الحديث للمؤامرة السياسية: «مذكرات توضح تاريخ اليعقوبية». نُشر المجلد الأول في عام 1797، وتمت مراجعته في البداية بشكل إيجابي في العديد من المجلات الإنجليزية وترجم إلى اللغة الإنجليزية في العام التالي.
رأى بارويل الثورة الفرنسية كتتويج لمؤامرة خبيثة طويلة الأمد دبرها «فولتير وروسو وفلاسفة آخرون، والذين تآمروا -مع الماسونيين والمتنورين الألمان -لتدمير الملكية والكاثوليكية في فرنسا»، وفقاً لما ذكره المؤرخ عاموس هوفمان. لهذا السبب، يرى هوفمان أن عمل بارويل هو «أول محاولة منهجية لمناقشة دور المؤامرة في الثورة».
كان بارويل يحاول شرح جميع أحداث الثورة -حدثاً معقداً ومترامي الأطراف أطاح بالملكية الفرنسية، وأدى إلى تهميش الكنيسة وأعلن «الحرية والمساواة والأخوة» للجميع. وركز على «التدخلات البشرية» باعتبارها السبب الوحيد للثورة.
وزعم أن هناك ثلاث مؤامرات تعمل في الأحداث الجارية: «مؤامرة عقوق» ضد الكنيسة، و«مؤامرة تمرد» على المؤسسات القائمة وعلى الأرستقراطية، و«مؤامرة فوضى» على المجتمع نفسه. شكلت هذه المؤامرات الثلاث مجتمعة، في عقل بارويل، تهديداً وجودياً للمسيحية والحضارة نفسها.
وكتب إدموند بورك أنه «تلقى تعليمات وكان مسروراً» بالمجلد الأول، بينما كان المعلقون في إنجلترا وألمانيا وأميركا ملهمين لمحاولة الكشف عن مؤامرات مماثلة في بلدانهم، حيث كانت البوادر الثورية موجودة. وقد جذب مراقبين مثل «بورك» الذين كانوا يبحثون عن أسباب لمعارضة الثورة الفرنسية وحشدوا الدعم للكنيسة والأنظمة الملكية الأوروبية التقليدية.
عندما أصبح نطاق رؤية بارويل واضحاً في المجلدات اللاحقة، استاء القراء من هذا السرد الغريب والتآمري. حتى المحافظين وعدو الثورة الفرنسية «جوزيف دي مايستر» وصف نظرية بارويل بأنها «حمقاء» و«خاطئة»، وغريبة للغاية بحيث لا يمكن تصديقها.
ولكن ما الذي يفسر هذا النزوع البشري إلى الاعتقاد بشدة بأوهام سخيفة عن العالم؟ نحن مدفوعون لفهم العالم وحماية مكاننا فيه. في أوقات الاضطراب الكبير، قدم الوصول إلى «الحقيقة» الممنوعة عن الآخرين إحساساً بالفاعلية، ووسيلة لتكذيب المعارضة. تَعِد المؤامرة بفرصة لأن تشعر بالراحة في عالم تشعر فيه بشكل متزايد بالانفصال، وفهم عالم يبدو بشكل متزايد بلا معنى.
في عصر العولمة غير المسبوق، والتراجع السريع عن التصنيع، وتغير الأعراف الاجتماعية بسرعة -كل هذا خلق إحساساً شديداً بالاضطراب في معظم أنحاء بلدنا، وهي ملاحظة لم تخلو من التعليقات الذكية من اليمين أو اليسار.
في حين أن «الأسلوب المصاب بجنون العظمة» في نظريات المؤامرة المختلفة الخاصة بـ «كيو أنون» ليس شيئاً جديداً، إلا أنها تنذر بالتأكيد بالسوء للديمقراطية. في حين أننا غالباً ما نختلف على التفاصيل، فإن جمهوريتنا الديمقراطية الهشة مبنية على المعتقدات الأساسية المشتركة المتعلقة بالحرية والعدالة والمساواة، فضلا عن الاتفاق المشترك على العملية السياسية التي تتطلب سيادة القانون والمداولات المدروسة والمراعاة الواجبة للعقل والأدلة. تتطلب الديمقراطية عملاً شاقاً، وتوفر نظريات المؤامرة هروباً سهلاً ومريحاً من هذا العمل، مما قد يؤدي إلى نتائج كارثية.
*أستاذ العلوم السياسية بجامعة بوردو
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»