تقوم الدول وأجهزتها السيادية وفلسفتها في بناء الهويات والانتماء والمشاركة على سؤال جوهري ومؤسِّس: مَن العدو ومَن الصديق؟ وقد صعد السؤال في العالم على نحو شامل في السياسة والإعلام والجدل الثقافي واليومي عندما انهارت في أواخر الثمانينيات المنظومة السوفييتية والحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي الغربي والشيوعي الشرقي، وبدا أن العالم يبحث عن عدو جديد، يخلف الشيوعية والاتحاد السوفييتي وحلف وارسو، حيث قيل حينها إن العدو المرشح للعالم الجديد هو «الإسلام»، وقيل إن العدو هو الفقر والمرض والوباء والجوع والظلم ونقص المعرفة، وفي المقابل فإن أولويات العالم ستكون الحرية والمساواة والتعاون والصحة والتنمية، وهو ما أسماه فرانسيس فوكوياما «نهاية التاريخ». لكن، ولشديد الأسف، أسس الغزو العراقي للكويت عام 1990 لمرحلة جديدة من الأزمات الكبرى كان الإسلام والمسلمون في قلبها.
ثم برزت مبادرات عالمية جديدة أهمها «الأخوة الإنسانية» بالمشاركة بين أبوظبي والأزهر والفاتيكان عام 2019، وهي تقوم على الأخوة بدلاً من العداء، والتركيز على مواجهة الكراهية والتطرف والتعصب. ذلك أن الحرب على التطرف والإرهاب تحولت إلى صراعات شاملة مع جماعات ودول دون التفات إلى الجذر المؤسس للكراهية والعنف، وظهر بوضوح أن الانتصار على المتطرفين والإرهابيين لا يعني القضاء على التطرف والإرهاب!
واليوم تفرض الفكرةُ نفسَها أمراً واقعاً، فالعالم كله في مواجهة الوباء، والتحدي لا يميز بين الفقراء والأغنياء، المتقدمين والأقل تقدماً، الصغار والكبار. والأعمال والأسواق والمصالح والمؤسسات والحياة اليومية تقوم اليوم على تضامن عالمي وتعاون شامل تشارك فيه الدول والجماعات والمؤسسات في مواجهة التحدي أو العدو الجديد. وكان ظريفاً بالفعل أنه تكونت مشاعر عدائية تجاه الوباء وصلت إلى حد التظاهر ضده!
ويدرك العالم اليوم أن الخروج من الأزمة يقوم على إعادة بناء في الأفكار والاتجاهات، بل والفلسفات المنشِئة للدول والجماعات، ويبدو واضحاً أن العدو الحقيقي والتحدي الأساسي هو «المرض»، فلن تعمل المؤسسات والأسواق ولن يستطيع الأفراد ممارسة حياتهم ومتابعة مصالحهم من غير تخطي هذه الأزمة، ووجدنا ببداهة أن المواجهة تقوم أساساً على قيم ومسؤولية فردية، كالنظافة والتغذية الجيدة، والمسؤولية العالية تجاه الذات والعالم، والتعاون والوضوح في تقصي المعلومات والبيانات، وفي إعادة تشكيل الثقافة والعادات والتقاليد والقيم لمراعاة الصحة والسلامة. وبالنسبة للدول والجماعات فليس لديها ما تفعله أكثر أهمية وجدوى من سياسات ومؤسسات صحية وتعليمية شاملة وكفؤة تتشارك فيها الحكومات والمجتمعات والأفراد. فالخروج من الأزمة العالمية كما المجتمعية والفردية ليس سوى «الصحة الجيدة»، وهي منظومة من السياسات والتقاليد وأنماط الحياة والعلاقات الجديدة تقوم ببساطة على أن العدو هو المرض والصديق هو الصحة.
إن التجارة كما يقال هي الدبلوماسية الإلهية أو هدية الله للناس لينشئوا السلام، ولكي يؤمِّن الناس احتياجاتهم فإنهم يديرون منظومة من العلاقات والسياسات تتخطى كل ما يحول بين الناس وحياتهم الأفضل. وحتى في الحروب والصراعات فإن الأعداء في حاجة إلى التعاون والعمل المشترك لتتمكن جميع الأطراف، رغم العداء والخلاف، من استمرار حياتها وبقائها. والحال أن الصراعات شكل من أشكال العلاقات والتعاون، وهي ليست سوى تسويات بين أطراف لا تستغني عن بعضها البعض، ولا تريد ابتداءً أن يخفي أحدها الآخر، بل إن أسوأ ما تتذكره الإنسانية وتستحي منه هو الجنون الذي تنزلق إليه أمم أو جماعات في محاولتها لإخفاء الآخر من الوجود.
*باحث وكاتب أردني