«أنا امرأة تحمّلت، مثل بقية العراقيين، خسارات هائلة، الوطن والأهل والأصدقاء والديار وأعمالنا وحدائقنا وطريقة للحياة، تبدو لي الآن مثل حلم دفنته في أشدّ زوايا الذاكرة ظلاماً حتى لا أعود إليه، أحياناً وأنا في وحدة بيتي في عمان، يُهيأ لي أنني مررت بتناسخ أرواح.. أما قلبي فمثل قلوب بقية العراقيين، لو شقوه لوجدوا بين جوانحه خوفاً طال عقوداً، وعذاباً، وحصاراً، وحروباً، ووشماً بوجوه مُفتشي أسلحة الدمار الشامل، ووجوه أطفال مصابين بالسرطان أو محترقين».
تحكي ذلك «رباب»، الشخصية الرئيسية في قصة تحمل اسمها، والعجيب أن يكون حديثها هذا إلى «بيجمان»، وهو طبيب إيراني يعيش في لندن، التقت به مصادفة في شارع أبي نواس، قرب تمثالي «شهرزاد» و«شهريار»، وكان ذلك اللقاء فاتحة قصة حب غريبين راشدين يدهشان من وقوعهما في حب يخطو بهما عبر معالم بغداد، ويعبر بهما بالزورق دجلة، ويأخذهما إلى سوق الكتب في شارع المتنبي، وفي الحب تستعيد رباب «روائح بغداد التي كبرتُ بينها، رائحة الماء الأحمر في سواقي الحديقة، ورائحة الطلع، ورائحة النارنج، والدارسين والهيل والزعفران، أشمها وأعرف أنني في بغداد»، وحبٌ عراقي إيراني عجيب كهذا سيقضي عليه قبيل اكتماله بالزواج، حادثُ انفجار سيارة مفخخة في منطقة الأسواق التجارية غداة عيد الفطر عام 2017، راح ضحيته 300 قتيل، بينهم «رباب».
والمرأة العراقية صندوق عجائب مختوم بشجن يوجع القلب، كما هي «عائشة»، الشخصية الرئيسية في قصة «الصندوق»، وهي أطول قصة في مجموعة قصص عنوانها «الصندوق»، وأكثرها شجناً، حيث حياة العراقيين، أعراس جميلة تمزقها فواجع الحروب في الثمانينيات، والتسعينيات، «التمر تكوّر وطاب مذاقه في البصرة والحنطة والشعير تنوء بأحمالها في الموصل، وأسراب الطيور تعود إلى الأهوار، والناس تعمل بهمة والبلد خلية نحل يصبُّ فيها الخير من كل صوب بدأت مع أول المطر الحرب العراقية الإيرانية في سبتمبر، واستمرت ثماني سنوات جعلت العراقيات صلبات كالسيف، وبالغات الهشاشة كفراشة، وضميمة القوة والهشاشة أخذت سُميّة عبر بوابة الجحيم بين حربين مدمرتين تجندّ فيهما زوجها، الخليج الأولى والثانية، فالتقت بشبح جدتها عائشة المتوفاة. سُميّة عيوني، جاءها صوت الجدة، ورأتها قادمة نحوها من الحديقة، وتجلس على العتبة جنبها، وإذ سمية تكاد ترمي نفسها في حضنها، ابتعدت الجدة ورفعت يدها محذرة من الاقتراب، ثم ابتسمت وقالت لها: قوي قلبك يا عيوني، ولو جا الخوف تذكري اللي قلتيه بالمتحف، لا شيء يضيع.. بلدنا مثل النخل اللي رسموه على الحيطان قبل أربعة آلاف سنة، وهذا النفط الملعون اللي يموتون بسببه البشر كم سنة وينشف، وبلدنا باقي مثل نخلاته، صابر وحمول وتَمره يشبعنا وما نموت من الجوع».
وأعجب عراقيات الكتاب مؤلفته «ميسون مَلَك»، التي تتدفق بلغة دارجة شعرية ساحرة، وهي ليست أصلاً أديبة، بل مختصة بالاقتصاد الذي درسته في جامعتي يورك البريطانية والأميركية في بيروت، وعملت في وكالات الأمم المتحدة التي ابتعثتها إلى البلدان العربية وأفريقيا وجنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية، ومؤلفاتها بالإنجليزية في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والقصة الوحيدة في مجموعة قصص الكتاب عن عملها حكاية «أطفال أفغانستان ذوو اللون الأزرق»، قد تكون فاتحة حكايات تروي حياة العاملين في منظمات الأمم المتحدة، وستكون فريدة في الكتب عن المنظمة الدولية، و«الصندوق» هو أول كتاب أدبي لها، كأنها عتّقته في ذاكرتها طوال عمرها الذي تجاوز خمسين عاماً، والمواهب قد تتوارث بالجينات، و«ميسون مَلَك» ابنة خال رائدة الشعر العربي الحديث نازك الملائكة، وشقيقة الأديبة العراقية الكندية نسرين مَلَك.
*مستشار في العلوم والتكنولوجيا