من المجازفة التنبؤ بنتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية قبل شهرين من الاقتراع الذي سيكون- مهما كانت نتيجته- مظهراً بارزاً، لحالة التصدع العميق الذي يعرفه راهناً الحقل السياسي الأميركي. ليس الاستقطاب السياسي ظاهرة جديدة في النموذج الأميركي الذي تأسس على جدلية معقدة واكبت تاريخياً «الحلم الأميركي»: أطروحة الاستثناء والتميز، بما تعنيه من سمو وعظمة، بارتباطها بتجربة الاقتحام والنجاح، وأطروحة الثورة والتمرد، المتولدة عن تجربة التحرر من الإمبراطورية الإنجليزية ونضالات الحقوق المدنية ضد العبودية والتمييز العنصري.
ومع أن حالة الاستقطاب الحزبي (الصراع الجمهوري - الديمقراطي) لا تعكس بذاتها هذه الثنائية المتجذرة في المجتمع الأميركي، فإن التحولات التي عرفها الحزبان الكبيران في الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، سارت في اتجاه التضارب المتزايد بين خطاب محافظ شعبوي يدافع عن الاستثناء والخصوصية القومية، وخطاب راديكالي يدافع عن الحقوق المدنية والهويات المجتمعية والثقافية الخصوصية.
لقد خلصت دراسة صادرة مؤخراً، لبعض أساتذة العلوم السياسية والاقتصاد من جامعتي برون وستانفورد، إلى أن الديمقراطية الأميركية أكثر ميلاً للحالة الاستقطابية من الديمقراطيات الأخرى، باعتبار أن مكوناتها السياسية الرئيسية تستند إلى طبيعة التركيبة الدينية والطبقية والعرقية، في حين يتركز الصراع على رهانات ملموسة وحيوية لها علاقة بالمعتقدات الدينية، مثل الإجهاض، أو بالحقوق المدنية، كسياسات التمييز الإيجابي لصالح الفئات الإثنية أو المجموعات القومية.
ليس هذا الاستقطاب فكرياً عقدياً فقط، بل أصبح يتجلى في التركيبة الديموغرافية والعمرانية للبلاد؛ إذ تفيد استطلاعات الرأي الأخيرة أن 62 بالمائة من ناخبي المدن الكبرى يصوتون للحزب «الديمقراطي»، وإن 55 بالمائة من ناخبي الأرياف والمدن الصغيرة يصوتون للحزب «الجمهوري».
وإذا كان من الصعب استنتاج طبيعة التصورات ذات العلاقة بالسياسة الخارجية من المواقف المتباينة في الملفات الداخلية، إلا أنه من الجلي أن المرشح «الديمقراطي» بايدن قد استقطب تيارين أساسيين من مكونات الإدارات «الجمهورية» السابقة : تيار السياسات الأمنية والدفاعية، الذي يتشكل من كبار ضباط الجيش والاستخبارات من المتشبثين بالأطروحة الأطلسية التقليدية (الحلف مع أوروبا واليابان كدعامة للأمن القومي الأميركي)، وتيار «المحافظين الجدد» المدافع عن نهج تصدير القيم الليبرالية والديمقراطية إلى العالم، شرطاً لحماية تفوق وريادة النموذج الأميركي.
فعلى الرغم من صعوبة استكناه خط واضح ومنسجم للسياسة الخارجية للرئيس الحالي ترامب، فإن الجلي أنه قام بتحوير نوعي في فلسفة وتوجهات الديبلوماسية الأميركية التقليدية، لا لأسباب مزاجية شخصية، كما يظن عادة ، بل من منظور قراءة معينة لخريطة العلاقات الدولية الجديدة، يشترك فيها مع الكثير من السياسيين الأميركيين، بمن فيهم أفراد من رموز نظام سلفه أوباما.
وفق هذه القراءة، لم يعد بالإمكان الاستمرار في المحددين اللذين قامت عليهما الدبلوماسية الأميركية التقليدية وهما: نظام الحماية الأميركية لأوروبا، الذي هو جوهر السياسة الأطلسية التي تبلورت في الحرب الباردة، ومقاربة التداخل العضوي بين نشر الديمقراطية الليبرالية والمصالح الحيوية الأميركية. لم يكن المحددان من قبل موضوع تجاذب بين الإدارات المختلفة التي حكمت الولايات المتحدة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ولقد بدأت مراجعة هذه الثوابت مع الرئيس السابق أوباما الذي تخلى بصفة ناعمة عن سياسة التدخل الخارجي في أزمات العالم، وقلص سياسات التحالف مع أوروبا، وانفتح بصفة غير مسبوقة على الأنظمة التسلطية التي كانت واشنطن تصنفها في خانة العداوة (مثل النظام الإيراني ).
ومع أن ترامب خالف سلفه في سياسة «التحكم من الخلف»، التي تبناها علنا، فإنه صدر عن القراءة نفسها للعلاقات الدولية الجديدة، وإن استنتج منها نتائج مختلفة، من أبرزها إخضاع المواقف الديبلوماسية والتحالفات الدولية لمنطق المصالح الأميركية في أبعادها الاقتصادية على الأخص.
وعلى عكس المؤشرات الظاهرة للتقارب بين المرشح «الديمقراطي» والرئيس السابق أوباما، لا يتوقع أن يسلك بايدن، في حال فوزه، مسلك سلفيه «الديمقراطيين» كلينتون وأوباما.
فإذا كان مسلك «الدبلوماسية التحويلية»، الذي انتهجه كلينتون، أخفق في طموحه لإعادة بناء عالم ما بعد الحرب الباردة على أساس تعميم النموذج السياسي والحضاري الأميركي، فإن مسلك أوباما فشل في محو آثار سياسات التدخل النشطة التي سلكها جورج بوش الابن، بتكلفتها البشرية والمادية الباهظة.
يبين الكاتب والمحلل السياسي «جيمس تروب» في مقالة مطولة، في «فورين بوليسي» (20 أغسطس)، أن بايدن وإن كان يؤكد الرؤية الاستراتيجية الأميركية التقليدية حول ترابط المصالح الأميركية وحماية «العالم الحر»، إلا أنه يدرك طبيعة مسار توزع القوة في العالم الراهن، وحقيقة التداخل الكثيف بين مصالح دول العالم، ومن ثم سيبتعد عن خط الدبلوماسية «الرسالية» التي طبعت عهد كلينتون، وعن خط الانكفاء الإيجابي لصالح خصوم أميركا التقليديين، الذي سلكه أوباما. إنه سيعمل على حماية حدود النفوذ الأميركي التقليدي في مواجهة طموح روسيا والصين لتغيير قواعد النظام الدولي، لكنه على وعي مثل ترامب بضرورة مراجعة عقد الشراكة مع أوروبا، وإعادة بناء المظلة الأطلسية، وفق الرهانات العالمية الجديدة.
من هذه المنطلقات، يمكن الاستنتاج أن الاستقطاب العميق الذي يشهده المجتمع الأميركي داخلياً، لا ينعكس تلقائياً على الحوار الاستراتيجي والأجندة الدبلوماسية، وإن كان الخطاب الانتخابي يربط بقوة بين السياقين.
*أكاديمي موريتاني