لم يعد «عياش» المنفذ لتفجيرات ومقاتلاً فرداً، إنما ظاهرة، كـ«داعش» صارت عنواناً للخراب والسَّبي والموت. أودت ظاهرة «عياش» بحياة المئات مِن المفكرين والمثقفين، فكلّ مكان يقصده الثُّوَّار الإسلاميون يقوم «عياش» بالتَّمهيد، لتصفية العقبات التي تواجه المشروع، وبهذا المعنى اغتيل حسين مرة(1987)، صاحب «النّزعات الماديَّة في الفلسفة الإسلاميَّة»(1978)، وبين أسبوع وآخر، ينقض «عياش» على رابية مِن روابي العقل، الذي يتعارض مع ميثيولوجيا الولاية، لكن لا يتم ذلك إلا بعد لإخراج المغتالين مِن الدِّين. لا يُنفذ «عياش» مِن دون تكفير، لأنه شديد التَّدين، ليس بالضَّرورة أن يكون التَّكفير معلناً، باللَّفظ غير الصَّريح، على طريقة حسن البنا(اغتيل1949): «خلصونا مِن الخازندار»(كامل، في نهر الحياة)، فاغتيل الخازندار(1948)، مِن قِبل الجهاز الخاص، ولـ«عياش» أجهزة خاصة بالقتل، يقودها «أمراء الدَّم».
هكذا، يتم اغتيال أروع النَّاس المتفانين مِن أجل ماء نظيف، ووطن آمن، لا تبقى فيه الدِّيمقراطية كذبةً. يُقتل هؤلاء بتمهيد لـ«عياش» عبر برامج فضائيات الأحزاب الدِّينية وإعلامها، عبر خطبة وقذف، أو مقال يُنشر خارج الحدود ويحذر مِن «الجواسيس» للأميركان، عبر التَّثقيف بكتيب «دليل المجاهد» لأول ولي فقيه لحزب «الدَّعوة الإسلاميّة».
اعتبر«عياش» الطَّبيبة رهام يعقوب(جاسوسةً)، وهي ليست آخر المغتالين والمغتالات، بسلاحه الذي يجوب علانيَّة بالبصرة وبغداد، جنوب العِراق ووسطه متأبطاً شرَّه، مع أن رهام لم تُسلم «سيف ذي الفقار» لوزير الدفاع الأميركي، الذي أشعل المأساة ولم يُطفئها، بل الذي أهدى مجسم سيف عليَّ بن أبي طالب، كُرم بأفخم المناصب والقصور، ورهام تعرف مِن أين ينبع دجلة والفرات، وصاحبهم، الذي أهدى السّيف، يجهل ذلك. مِن حقَّها الصّراخ مِن أجل الماء، لأنها تعرف منبع ومجرى دجلة والفرات، تعرف الفرات نهراً عراقياً وليس مصرياً، مثلما صرح «عياش» المتربص بها وصحبها.
لو أخذنا المغتالين بكاتم «عياش» واحداً واحداً، وبحثنا عمّا ارتكبوه مِن كبائر، مثلما يفهمها أصحاب الثورة، سيطل علينا أول المتظاهرين المغتالين هادي المهدي(2011)، ولو لم يظهر عشية اغتياله مُدَمىً مِن كدمات «عياش»، لصدقنا أنه صُعق بالتَّيار الكهربائي -العراقيون يقولون: «انتل بالكهرباء»- مع عدم وجود كهرباء بعراق ما بعد(2003) قادرة على الصَّعق.
لو أن المغتال كامل شياع(2008)، كان منافساً في انتخابات، وساعياً لمنصب، لقلنا اغتياله معركة بين خصوم، لكن مشكلته مع «عياش» أن لديه مشروعاً ثقافياً، وهذه في عرف «عياش» جريمة، لأن مفردة الثقافة أو الفن تعني الانحلال، وهم لا يهمهم الانحلال نفسه، لأنهم يمارسونه بتبرير شرعي! لكن َّمع الثَّقافة والفن سينمو جيل، يصرخ «نُريد الوطن» المخطوف! ومعلوم ما معنى أن يكون لك وطن، أول شروطه أن يقف «عياش»، بكل عناوينه، أمام القضاء ليُسأل عن دماء المئات، مِن المغتالين والمغتالات.
كي تعلموا كم أن الثّقافة والوطنية خطرة على عياش وأحزابه، أن رئيس وزراء يختار معمماً، مستشاراً ثقافيّاً، ويكون هذا المستشار أميناً عاماً لجامعة، وعندما يُسأل عن شهادته يقول: ألا يكفي أنني تتلمذتُ في الحوزة الفلانيّة؟!
أمامي كتابان، كأنهما بداية تأسيس لديوان المغتالين والمعذبين، أحدهما قديم «أسماء المغتالين في الجاهلية والإسلام ومَن قُتل مِن الشُّعراء» لمحمد بن حبيب(ت245هجرية)، والجديد «موسوعة العذاب»(سبعة مجلدات) للقاضي عبود الشَّالجي(ت1996). نجد بين المغتالين منافسين على الحُكم، وأصحاب ثورات وثروات، وأبيات شعر قاتلة، لكنَّ ليس بينهم مَن كان يخشى مِن عطش حاضرة مثل البّصْرة، قال في مائها بشار بن بُرد(قُتل167هجرية): «الرَّافدان تَوافى ماءُ بحرهما/إلى الأبُلةِ شرباً غير محظور»(المسعودي، التَّنبيه والإشراف).
اعتبر «عياش» رهام يعقوب كافرة فنفذ فيها الفتوى، الصَّادرة في خطاب جهازه الخاص، لأنها طالبت بماءٍ غير محظورٍ، الماء الذي نُحتَ منه اسم البَصْرَة، «بيث صريا وتعني القناة»(المطران مَنَّا، دليل الرَّاغبين في لغة الآراميين، الموصل 1900). عياش ظاهرة مِن ظاهرات «أحزاب الله»، في كلِّ مكان يعتبر نفسه السُّلطة العميقة، بدأ التنفيذ منذ 1979، لم يترك صوتاً يُنذر بالنُّور. ما يجمع بين عياش وداعش، غير سجع الاسم، صناعة القتل والظَّلام، الاثنان يعملان بقوة الجهاز الخاص.