لا يمكن فصل الصراع الدائر في ليبيا حالياً، وما سيطرأ عليه مستقبلاً، عما يشكله النفط الليبي من أسباب للقتال، وما يلعبه من دور، سواء في ترجيح كفة أي من الفريقين المتقاتلين، أو تحديد مستوى التدخل الدولي، خصوصاً الأوروبي، نظراً لأن الجزء الأكبر من هذا النفط كان يذهب إلى دول معينة في القارة العجوز، ولا يزال، بينما تتلهف أنقرة بالقطع إلى الثروة النفطية الليبية، ناهيك عن غاز البحر المتوسط.
فابتداء، فإن من يسيطر على آبار النفط ومصافي تكريرها ستكون له اليد الطولى، ليس لحيازته مصدراً مهماً، بل أساسياً وربما وحيد، للثروة في البلاد، ما يؤهله لتعبئة موارد الحرب من سلاح وتجنيد، وإنفاق على تنمية تخلق له ولاءات اجتماعية، إنما أيضاً لأنه الطرف الذي سيتحدث معه الخارج بجدية، لأن في يده المصالح والمنافع، التي دونها لن يهتم العالم بليبيا كثيراً.
ربما يكون هذا كلاماً ثابتاً أو راسخاً من قبيل المسلمات، فما الداعي لطرحه الآن والاعتقاد أن به جديداً قابلاً للتناول والتداول؟ إن الإجابة التي تقفز إلى الذهن على الفور، هي أن النفط بات على خط النار، أو في المساحة الفاصلة بين الفريقين المتصارعين، الأول وهو الجيش الوطني الليبي الذي يقوده خليفة حفتر، المسيطر على مناطق إنتاج النفط، والثاني هو المجموعات المتطرفة التابعة لـ«حكومة الوفاق»، التي تمد عينها إليه، وهنا ترى هذه المجموعات أنها دونه تكون قد خسرت ما يمكنها من الهيمنة على كامل تراب ليبيا، وتحصيل حيثية دولية أكبر، وهو ما تسعى إليه بالفعل. والخطورة الآن تكمن في أن ليبيا بسبب «حكومة الوفاق» واصطفافاتها الخارجية، قد سهّلت الفرصة أمام المطامع التركية في ثروات ليبيا النفطية وموقعها الجغرافي، ضمن سياسة توسعية باتت مصدر توتر إقليمي، تتبدى بوضوح عبر مساعي أردوغان لاستغلال ثروات الغاز في شرق المتوسط.
ولأن الأمر على هذا النحو، فليس من المتوقع أن يبقى الطرفان يقفان عند حدودهما الراهنة، ويحافظان على خط تماس بارد، لاسيما لدى «حكومة الوفاق» وأتباعها، حيث ترى أنها بلا نفط، تخسر ما يجلب لها الاهتمام، بينما تحصيله يحقق لها هذا، ويحرم غريمها أو عدوها من ركيزة أساسية للقوة.
من هنا يصبح استئناف القتال في ليبيا مسألة بدهية، إن لم يحدث ردعاً متبادلاً تلعب فيه أطراف إقليمية ودولية دوراً مهماً، وتثبت أركانه قوى دولية، تجد أن بقاء الحال على ما هو عليه أفضل، كي تحصل على النفط في يسر، على العكس من وقوعه في يد تنظيمات قد تتقاتل عليه بعد، على غرار ما جرى في تجارب أخرى، ويمكن أن يؤدي قتالها إلى حرقه أو تدمير آباره، مثلما سبق أن فعلت تنظيمات متطرفة مماثلة.
ومن الجائز أن ترى هذه القوى العكس تماماً؛ إذ أن لها تجربة مع ما تسمى «الدولة الإسلامية في العراق والشام» ـ داعش، التي استولت على جزء من نفط العراق وسوريا، وراحت تبيعه بثمن بخس في سوق الطاقة الدولية، ووجدت من يسهل لها هذا، تحقيقاً لمنفعته المباشرة، ودون أدنى اعتبار لسرقة مورد من دولتين، أو مساعدة تنظيم إرهابي على تحقيق أهدافه.
لهذا، يبقى النفط حاسماً في الصراع الليبي، سواء كان سبباً لصدام حتمي، أو لعمل بعض الأطراف على الحيلولة دون وجود حكومة مركزية مسيطرة في البلاد، والخطر يكمن في إقدام بعض التنظيمات للاستيلاء على آبار نفط، دون أدنى اعتبار لمصلحة الشعب الليبي.
النفط كما كان سبباً في ترسيخ الديكتاتورية في ليبيا طوال اثنين وأربعين عاماً، من خلال استخدام عوائده في تعزيز سلطة القذافي، فإنه يعود ويلعب الآن الدور الأكبر في تغذية الصراع المسلح، وفي الوقت نفسه يسهم في إماطة اللثام عن طبيعة هذا الصراع وحقيقة أهدافه.