لأول مرة قبل أسبوعين، خرج وزير الخارجية اللبناني السابق ناصيف حتي ليقول في تعليل استقالته: إنّ المسار الحالي يؤدي إلى دولة فاشلة. قبل «حتِّي» كان الاتهام بأمرين: العجز والفساد. إنما عندما كان «حتّي» وبعض الوزراء الآخرين يفكرون بالاستقالة، وبخاصة بعد تدمير مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس الجاري، كان أهل السلطة المحاصرون (الثنائي الشيعي، ورئيس الجمهورية) يفكرون ليس بالخروج من العجز والفشل، بل بالوسيلة التي تمكِّنهم من أَخْذ فُرصة لالتقاط الأنفاس. وما وجدوا حاضراً غير التخلص من حكومة حسّان دياب، وهي ورقة التين التي غطَّوا بها أنفسهم لأكثر من ستة أشهر! ومع استقالة رئيس الحكومة، الذي ما قال شيئاً جديداً غير ما ردَّده طوال الأشهر الماضية، أظهروا انشغالاً شديداً بالمشاورات، تمهيداً للاستشارات الملزمة التي تجلب، كما قالوا، حكومةً جديدة!
إذن، أول الفوائد التي يرجون حصادها لصرف الانتباه عن الكارثة، هو شَغْل الناس بالحكومة الجديدة ورئيسها. والحق أن الحكومة (السلطة التنفيذية وفق الدستور) شديدة الأهمية لو أُخذت الأمور بجدية، إذ عليها القيام بعدة مهام إنقاذية: الإقبال على معالجة آثار الكارثة، والترميم الأولي، وتنظيم المساعدات الإنسانية والاجتماعية والطبية، والتحقيق في أسباب ما وقع، وإيقاف الانهيار الاقتصادي، والتفكير في قانون انتخاب جديد لإجراء الانتخابات النيابية المبكرة. من هذه الأهداف والمهام كلّها، لا يؤيد الطرفان غير الهدف الأول، حرصاً على استجلاب المساعدات وفك الحصار، كما ذهب لذلك رئيس الجمهورية وزعيم «حزب الله».
أما أول ما يريدون إثارة مشكلات حوله لإلهاء الناس، فهو اسم رئيس الحكومة المقبل. الرئيس ينبغي أن يكون مستقلاً. والحكومة لا بد أن تكون حيادية. والثنائي الشيعي ووليد جنبلاط يريدون الرئيس سعد الحريري أن يعود، مع الكثير من التمنن والمزايدة. أما كل الآخرين، فيطرحون اسم الدكتور نواف سلام، مندوب لبنان في الأُمم المتحدة سابقاً، والقاضي بالمحكمة الدولية حالياً. ويتظاهر الثنائي الشيعي بمعارضته، في حين يرحب به جبران باسيل، نكايةً بسعد الحريري! والطريف أنّ أحداً لا يسأل السنّة ماذا يريدون، لأن الهاجم والنائم يفضّلان أن تأتي التسمية منهما، باعتبار أنهما مَن يملكان الأكثرية في مجلس النواب.
ولكي يزداد الصَخَب، ويتكثّف الغبار، ينشر الطرفان (الثنائي الشيعي والوطني الحر) أخباراً حول اتفاقهما مع ماكرون على «ميثاق وطني جديد». وهم يريدون من وراء ذلك إخافة أهل السنة على «الطائف». في حين يخاف المسيحيون من مشروع نبيه بري ووليد جنبلاط لانتخابات الدائرة الواحدة، والذي يضيّع في نظرهم ميزات المسيحيين وحقوقهم. والثنائي والعوني متنبهان للتذمر الشامل المنتشر في أوساط السنّة، لكنهما لم يدركا بعد أبعاد السقوط المريع لـ«الوطني الحر» في أوساط المسيحيين. وبالطبع، فإن نقاشات كهذه هي للإلهاء الآن. لكن هناك توجُّه مسيحي قوي للتلاقي مع السنة، وإعادة الاعتبار لـ«الطائف»، الذي كان الرئيس عون طوال ثلاثين عاماً قد نفّرهم منه. لكنّ المشكلة تقع في مكانٍ آخر، منها أنه ليست هناك قيادة، أو قيادات سنية، لملاقاة التوجُّه الجديد للنُخَب المسيحية.
ولنلاحظ القضية الثالثة التي تستأثر بالاهتمام؛ فماكرون عندما كان بلبنان قابل ممثلين عن «حزب الله»، وقد أتى إلى لبنان هذه الأيام ديفيد هيل، مساعد وزير الخارجية الأميركي، للتحادث مع «بري» بشأن ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل. فالثُنائي - إذن- يجري محادثات مع إسرائيل وبغطاءٍ أميركي ودولي شفاف، رجاءَ أن تتدفق عليهم، من خلال الترسيم، سيول النفط والغاز. أو لأنّ هدنةً يمكن أن تُنظَّم لحين الانتخابات الرئاسية الأميركية، والتي يفيد منها الجميع. وفي حين تقول النخب السنية: إن ترسيم الحدود، إن تم، مفيدٌ في إظهار عدم الحاجة لسلاح الحزب، فإن المسيحيين يقلقهم أن الذي يُجري المفاوضات «برّي»، وليس رئيس الجمهورية المخوَّل بالتفاوض وعقد المعاهدات الخارجية، بحسب الدستور.
إن كل هذه الهموم تحيد عن القضيتين الأساسيتين: كارثة مرفأ بيروت، والانهيار الاقتصادي والمالي. والواضح أن العرب والدوليين يريدون المساعدة في الأمرين، فقد جاء لبيروت وزيرا خارجية مصر والأردن.. لكنهم لا يرون التعاون مع الثنائي المسلَّح، ولا مع العوني المستعصي. وهكذا تظل السلطة ذات القطبين صاخبةً وعاجزةً في الوقت نفسه، وفي حالة جعجعة من دون طَحْن!
*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية -بيروت