مثيرة للانتباه دعوة آلاف البنانيين فرنسا، خلال زيارة رئيسها ماكرون بيروت الأسبوع الماضي، إلى استعمار بلدهم مجدداً، وربما تعبّر هذه الدعوة عن فقدان الثقة في الطبقة الحاكمة أكثر مما تدل على حنين إلى الاستعمار أو الانتداب. وأياً كان مقصدها، فهي تثير، شئنا أم أبينا، السؤال الوارد في عنوان هذا المقال.
والحال أن موضوع الاستعمار الأوروبي ظل مطروحاً للبحث والنقاش في الأوساط الأكاديمية والثقافية بعد انتهائه، وامتد إلى أوساط سياسية في بعض الحالات، فأثار جدالاً من وقت إلى آخر. والجديد في هذا الجدال الآن أنه يقترن بمعركة تصاعدت خلال الشهرين الأخيرين في الولايات المتحدة حول تاريخ العبودية، وحدث خلاف خلالها حول دور الرحالة الإيطالي كريستوفر كولومبوس الذي كان أول من اكتشف المناطق التي توجد فيها دول الأميركتين الآن.
والخلاف على دور كولومبوس، وتحديداً على أثر الانتهاكات التي ارتكبها ضد السكان الأصليين في المناطق التي اكتشفها، مطروح بدوره منذ وقت طويل. لكنه يأخذ صورة مختلفةً الآن عبر انتقاله إلى الشارع نتيجة حملة منظمة ضده تشمل إزالة تماثيله وإلغاء الاحتفال الذي يُقام في أكتوبر من كل عام بيوم كولومبوس، وتحويله يوماً للسكان الأصليين. ويتصدى لهذه الحملة مَن يرون أن الجرائم التي ارتُكبت لدى اكتشاف «العالم الجديد» قبل أكثر من خمسة قرون لا تُلغي حقيقة أن دور كولومبوس كان محورياً في التطور الذي أخذ العالم إلى العصر الحديث.
يوجد، إذن، اتجاهان، أحدهما يرى في كولومبوس رمزاً للقسوة، والثاني يعده أحد رموز التقدم والنهضة. والأرجح أن لدى كل من الاتجاهين جزءاً من الحقيقة. وليس هذا موقفاً توفيقياً، لأن القضية معقدة، ويتعذر اختزالها في أبيض أو أسود. فلا شك في أن كولومبوس ارتكب انتهاكات عندما كان يجوب المناطق التي اكتشفها. غير أن ذلك العصر حفل بانتهاكات من النوع نفسه قبل أن تظهر النزعة الإنسانية في عالمنا. كما أن من ارتكبوا تلك الانتهاكات تصوروا أنها وسيلة لتحقيق التقدم، ونظروا إلى المنتهكة حقوقهم حينئذ بوصفهم يرفضون أية مساعدة تعينهم على تطوير حياتهم البدائية، ويعجزون عن إقامة مجمعات منتجة. ورتبوا على ذلك أن الأرض التي يعيش عليها هؤلاء يجوز أن تؤخذ عنوة لإقامة حياة جديدة عليها.
والعلاقة وثيقة بين تقييم دور كولومبوس، والموقف تجاه الاستعمار بوجه عام. وإذا كانت قصة الرحالة الإيطالي تطرح السؤال عن كيفية تقييم دوره التاريخي، وهل نركز على الإنجاز الكبير الذي حققه، أم على الانتهاكات التي ارتكبها، فالسؤال مُثار بشأن الاستعمار أيضاً. فهل ننظر إلى ما ترتب عليه من قهر ونهب واستغلال، أم إلى ما أدى إليه من بناء وتطوير وفتح الباب أمام المستعمرات للانتقال إلى العصر الحديث؟ وقد أُثير هذا السؤال في مصر على نطاق واسع عام 1998 بمناسبة مرور قرنين على الحملة الفرنسية التي جاءت بالمدفع الذي قتل بعض المصريين، والمعرفة التي فتحت أمامهم آفاقاً واسعة وفكت رموز تاريخهم.
ويتصادف أن تكون قضية الاستعمار مطروحة الآن في فرنسا بسبب تجدد الجدال حول احتلالها الجزائر، وبعد إصدار «قاموس الاستعمار الفرنسي» قبل نحو عامين، وهو عمل كبير شارك فيه باحثون مناهضون للاستعمار. وقد قرأتُ عدة مراجعات لهذا العمل، ولم أجد فيما طالعته جديداً. كما تابعتُ كتابات غربية تباينت المواقف فيها بين إشادة بهذا العمل، وهجوم ضده بدعوى انحيازه وعدم تقديمه صورة كاملة للظاهرة الاستعمارية.
وهذا خلاف مستمر منذ أن كانت الظاهرة الاستعمارية في مهدها، عندما شرعت إنجلترا في استعمار العالم الذي كان جديداً في القرن السابع عشر، إذ اقترن الجدل حولها بالنقاش حول قضية العبودية. وكان دعاة الحرية والتنوير في تلك المرحلة مختلفين هم أنفسهم على تقييم الظاهرة الاستعمارية.
ومن أبرز تجليات ذلك الخلاف قبول جون لوك للاستعمار الإنجليزي، وإضفاء طابع رسالي عليه، ونقد جان جاك روسو وفولتير هذا الاستعمار وغيره باعتباره استرقاقاً سياسياً، وامتداداً لاستعباد البشر. كما بدا بعض المفكرين الأوروبيين في حيرة من أمرهم، مثل مونتيسكيو وكارل ماركس اللذين أدان كل منهما بطريقته فظائع الاستعمار حيناً، ووجده ضرورة لتحريك مجتمعات كانت متخلفة غارقة في الخرافة حيناً آخر.
وما دعوة بعض اللبنانيين إلى إعادة الاستعمار الفرنسي، ورفض آخرين منهم هذه الدعوة، إلا امتداد لهذا الخلاف التاريخي.
*مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية