تحولت مواقع التواصل الاجتماعي يوم الثلاثاء الماضي، إلى سرادقات عزاء في العالم العربي كله، بل امتدت إلى خارجه، حزناً على رحيل الطبيب محمد عبد الغفار مشالي، الذي اشتهر بلقب «طبيب الغلابة»، عن عمر ناهز السادسة والسبعين، قضى أغلبها في خدمة الفقراء ممن يقطنون القرى المنسية، والأحياء الشعبية والعشوائية، والشوارع الخلفية، وهم الذين وصفوه بهذا، فصار لقباً لافتاً سيظل مقروناً باسمه، ليس في تاريخ الطب العربي فحسب، بل في تاريخ مجتمعاتنا أيضاً.
ظل هذا الرجل الفريد والغريب في آن، يمارس مهمته الجليلة في صمت لسنوات طويلة، لا يدري أحد عنه شيء، محولاً إياها إلى قيمة عظيمة في ركاب خدمة، قد تغلب الأولى الثانية أو تسبقها، لكن لا يمكن إنكار رغبة الرجل الجادة والصادقة في علاج الناس من مختلف أسقامهم، على قدر الاستطاعة، ولا يجب تجاهل أن كثيرين بالفعل قد شفوا على يديه، وكان جانباً من شفائهم هذا يعود إلى معنوياتهم، التي ارتقت حين وجدوه يقوي عزيمتهم، ويحدب عليهم، كأنهم أبناؤه.
ربما ساهمت جائحة كورونا في إزكاء التأثر برحيل الدكتور مشالي، فالأطباء كانوا يتعرضون لحملة تشوية بتهمة التقصير في وجه الوباء، ولكن موجة دفاع الناس عن تضحياتهم، وهم واقفون في الصف الأول في الحرب التي شنها الوباء، جرفت في طريقها كل ما ألقته هذه الحملة اليائسة البائسة بغية تلطيخ معاطفهم البيضاء، بأي شكل.
قبل كورونا، كان هناك من يشكو جشع بعض أهل الطب، ممن حولوه إلى تجارة محضة، مفتقدين النزعة الإنسانية، ومتجاهلين حتى «قسم أبقراط»، الذي تعهدوا به بعيد تخرجهم من مختلف كليات الطب، لهذا ما إن التفتت قنوات فضائية لمشالي، حتى صنع الناس منه نموذجاً في وجه أطباء لا يراعون ظروف رقيقي الحال.
لكن قصة هذا الرجل فيها أشياء أخرى خفية، ساهمت في الإعجاب به، وتكريس وجوده وتعظيم المثل الذي يضربه، ليكون عبرة لمن يعتبر، إنه كان دليلاً على أن محبة الناس تكون قادرة إلى صناعة المكانة الاجتماعية الحقيقية، أو الرصيد الكبير في قلوب الناس، أكثر أحياناً من رضاء السلطة السياسية، وأنه يمكن لشخص بإمكانيات بسيطة أن يصنع «أسطورة ذاتية» إن أخلص لمهمته ومهنته، وأن هناك صرخة في العالم كله ضد ما فعله التوحش الرأسمالي بصحة الناس، والذي ظهرت بوائقه مع جائحة كورونا، التي فضحت مقدار الانحراف في كثير من الدول عن تلبية احتياجات الناس الحقيقية، ومنها بالقطع الحاجة إلى رعاية صحية ملائمة.
كان د. مشالي طبيب الغلابة يستحق نوبل للسلام، مثلما حصل عليها الألماني ألبرت شيفتزر، عندما ذهب إلى غابات أفريقيا لعلاج الفقراء في مطلع القرن العشرين، وسجل تجربته في كتاب «كلنا أخوة» الذي ترجمته د. نوال السعداوي، ونشر في مصر قبل أربعين عاماً، وقد أظهر نعي العالم كله لمشالي أن الرجل كان معروفاً خارج العالم العربي، ولو أنه لقي دعماً لاسمه، أدى إلى ذيوع أكثر، فربما حصل على الجائزة فعلاً.
لقد رحل طبيب الغلابة، الذي أسرنا بإنسانيته، راضياً مرضياً تاركاً خلفه ليست طريقته في المداواة، إنما قيم عظيمة تؤكد أن «الطب في خدمة الفقراء»، وهو شعار تبناه منذ نصف قرن، بعد واقعة قصها هو على مسامع الناس، حين عرف صبياً أقدم على الانتحار، بعد أن أبلغته والدته أن معنى شراء حقنة أنسولين له أن يبات أخوته بلا طعام.
ستظل كلمات هذا الرجل العظيم المنحازة لحق الفقراء في الصحة، ملهمة لشباب الأطباء، الذين عليهم أن يؤمنوا بأن الطب رسالة سامية قبل أي شيء.