سبق وأن حذّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منذ أشهر خلت، وبالضبط من ألمانيا، حيث كان قد حضر مؤتمر ميونيخ للأمن، من محاولة لزعزعة استقرار «الديمقراطيات الغربية»، عن طريق التلاعب بشبكات التواصل الاجتماعي أو عمليات معلوماتية مغرضة، وذلك «إما عبر أطراف فاعلة خاصة، أو عبر خدمات مباشرة، أو عبر وكلاء»، وأشار ماكرون إلى «تدخل فاعلين محافظين من اليمين الأميركي المتطرف في الانتخابات الأوروبية»، وقال: «ليس لدينا سوى بعض الدفاعات في مواجهة هذه الهجمات»، ورأى أنه يجب تعزيز الدفاعات التكنولوجية والتعاون بين الأجهزة الغربية، لتشخيص وتحديد هذه الهجمات التي تبقى في أحيان كثيرة مجهولة المصدر.
واليوم تقول المملكة المتحدة إن مجموعة قراصنة، تعرف باسم «آي بي تي 29»، نفذت هجمة للاستيلاء على أبحاث تخص لقاحاً ضد فيروس كورونا المستجد، وحذّر بيان لوزير الخارجية البريطاني دومينيك راب من أن أي جهاز استخبارات ينفذ هجمات مماثلة أو يقف وراءها «سيتحمل مسؤولية أفعاله عاجلاً أو آجلاً».
ويأتي هذا البيان في وقت تشهد فيه العلاقات بين لندن وموسكو توتراً على خلفية الانتخابات التشريعية البريطانية الأخيرة التي فاز بها المحافظون، وقبلها استفتاء 2016 الذي قاد إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وقد اعتبرت الحكومة البريطانية منذ أيام أنها «شبه متأكدة» من أن «فاعلين روساً» سعوا إلى عرقلة الانتخابات التشريعية، عبر نشر وثائق خلال فترة الحملة الانتخابية حول اتفاق تجاري محتمل بين لندن وواشنطن عقب «بريكسيت»، كما فُتح تحقيق لتحديد مصدر تسريب هذه الوثائق التي نشرت على موقع «ريديت» للتواصل الاجتماعي.
والعلاقات بين لندن وموسكو في أدنى مستوياتها منذ مقتل العميل الروسي السابق سيرغي سكريبال في مدينة سالزبيري جنوب غرب بريطانيا، والذي سبق لروسيا أن نفت أي علاقة لها بموته مسموماً، لكن المسألة قادت إلى عمليات طرد متبادلة للدبلوماسيين بين لندن وموسكو، ولم يتجدد الحوار بين البلدين إلاّ في فبراير 2019، بعد انقطاع دام أحد عشر شهراً.
وفي ظل البيئة الدولية المعقدة، والتي بدأت تتعقد أكثر مع جائحة كورونا، بدأت العديد من الدول الكبرى تظهر على شكل قوة تثق في نفسها بدرجة أعلى، وتستعمل أسلحة ذكية لم تعهدها العلاقات الدولية من قبل، ما أثر بدرجة كبيرة في مسار العمليات السياسية داخل بعض الديمقراطيات الغربية. وتعي هذه الدول تمام الوعي ذلك المفهوم الجديد للقوة، كما طرحه المفكر الاستراتيجي الأميركي جوزيف ناي، أي القدرة على تحقيق النتائج التي يريدها المرء. وتتباين الموارد التي تنتج هذه القوة في مختلف السياقات، فإسبانيا استغلت سيطرتها على المستعمرات وسبائك الذهب في القرن السادس عشر، وهولندا تربحت من التجارة والتمويل في القرن السابع عشر، وفرنسا استفادت من كثرة تعداد سكانها وجيوشها في القرن الثامن عشر، والمملكة المتحدة استمدت قوتها ممن سبقها في الثورة الصناعية ومن بحريتها في القرن التاسع عشر، أما هذا القرن فيتسم بثورة فتية في تكنولوجيا المعلومات والعولمة.
إن الرؤية الشخصية لصانع السياسة الدولية أو الخبير الاستراتيجي في وقتنا الحالي، يجب أن تتضمن نظرة موضوعية للبيئة الحالية، وتقويماً مسبقاً لنتائج الاستمرارية والتغيير داخل هذه البيئة، بصورة تضمن ازدهار المصالح الوطنية والعالمية في المستقبل. ومع أن الخبير الاستراتيجي يعترف بأن المستقبل لا يمكن التنبؤ به على نحو دقيق، فإنه يعتقد بأنه يمكن التأثير فيه، وتشكيل ملامحه للوصول إلى نتائج تحقق مصالحه الاستراتيجية، هذه هي القاعدة التي تؤمن بها الدول الغربية، وتعيها روسيا، وسط عالم تقوم سماته الرئيسة على رباعية التقلب والتوجس والتعقيد والغموض.