ماذا ينشأ عن التغير في أسلوب العمل والتعليم والعلاقات والتأثير والتبادل المعرفي الذي حولته الشبكية إلى أمر واقع، ثم تعزز وصار مطلباً ضرورياً بفعل جائحة كوفيد-19؟ إن شبكات التواصل تعيد الساحة العامة الرئيسية (أجورا/ زارا) التي كانت فضاء أهل المدينة جميعاً للتجارة والمقايضة والاحتفالات والصلاة والتقاضي والتعارف، أو مؤتمراً عاماً للمصالح والأفكار والسياسات اليومية والكبرى، ثم صارت هذه العمليات تعكس نفسها في «الجدل العام» الذي تقدمه وسائل الإعلام والمكونات الاجتماعية للأمم.
لكن المجال العام المتشكل اليوم بفعل الشبكية والتكنولوجيا الجديدة، مازال يفتقد تعاقد الفاعلين فيه إلى إطار للمبادئ والقواعد ينظم المشاركة فيه، ولذا فإنه يتحول في أغلب الأحيان، إن لم يكن دائماً، من مجال عام تتجادل فيه الأفكار والآراء والمواقف إلى عمليات صراع وتضليل وتقسيم اجتماعي عميق للمواطنين والجماعات، فلا يلاحظ الفاعلون في المجال العام أنه فضاء عام لكل إنسان يستطيع أن يتصل بالإنترنت، وأن هذا «الوصول» يجعل جميع الفاعلين على قدم المساواة. وفي ذلك فإنه لا مجال لتنظيم هذا الفضاء إلا بأن يكون كل فاعل/ واصل مقبولا في مشاركته، وأن يلتزم أيضاً كل فاعل باحترام وحق كل مشارك على قدم المساواة، وأن يكون الجدل بين جميع الأفكار والاتجاهات والآراء عقلانياً، بمعنى أنه لا سلطة غير العقل على فكرة أو شخص.
والجدل في المجال العام يقيم ويبرر نفسه على أساس ما يخدم الازدهار وبناء دوافع المشاركة العامة لدى المواطنين والمستفيدين والمستهدفين من هذه السياسات في الاتجاه الذي ينشئ وعياً وتقديراً لقيم الحياة الأفضل والازدهار وتقدير الإنجاز والتقدم والمرافق والسياسات العامة على النحو الذي يجعل القانون والقيم العامة للدولة والمجتمع دوافع ومحركات ذاتية وجميلة تقلل الجهد الرقابي والتنفيذي للمؤسسات العمومية وتطبيق القانون، وإذا لم يكن المجال العام متسقاً مع هدف وقيمة الازدهار وكرامة الإنسان فإنه يفقد مبرراته، ما يعني أيضاً بالضرورة أنه لا أفضلية لفئة أو فكرة تجعلها تشعر بالاستعلاء أو تجعل أصحابها يشعرون بالرفض والكراهية تجاه المخالفين، فلا أحد مرفوض في المجال العام.
وقد صعدت الفردية في هذا المجال الشبكي، ما يجعل التفكير في المجال العام يأخذ بالاعتبار أن الفرد أو «الذات الفاعلة» هو المكون الأساسي للمجتمعات والمؤسسات، وربما يحل محل التكوينات الجماعية، كما يقلل ذلك من دور التنظيم الاجتماعي والأخلاقي الذي كان الوعاء الأساسي لتنشئة الفاعلين الاجتماعيين وصياغة وتحديد أهداف المجتمع السياسي ومؤسساته.
وتصعد أيضاً في المجال العام الشبكي قيم الثقة والإتقان كقيم عليا للأسواق والمؤسسات والعلاقات الدولية والتجارية والاجتماعية، ما يجعلها شاغلاً محورياً للسياسات والعمليات التعليمية والثقافية كما الاقتصادية والسياسية.
كيف ستحدد المجتمعات دورها وتنشئ القيم والاتجاهات والأفكار السياسية والاقتصادية في ظل صعود الفردية الذي تبشر به الشبكية؟ لقد صعدت المجتمعات مصاحبة للثورة الصناعية باعتبارها الإطار الاجتماعي الداعم للدولة المركزية، كما أنها تحدد الأهداف السياسية واستخدام الموارد الاقتصادية وتنشئة الفاعلين الاجتماعيين ومعاقبة المنحرفين والخارجين على القانون.
وكما انفصلت المجتمعات عن المؤسسات الدينية لتنشئ الحضارة الصناعية، فإن الذات الفاعلة تنفصل في الحضارة الشبكية (سوف تنفصل) عن المجتمعات لأجل خدمة الحرية الخلاقة لكل فرد، ولتواجه العنف والهيمنة والاتجاهات السوقية والاستهلاكية متحررةً من الانتماءات والقواعد المفروضة، ذلك أن قوى السوق والصراع التي أضعفت المجتمعات والدول أتاحت في الوقت نفسه للذات الفاعلة أن تعمل وتتحرك مستقلةً بذاتها، وأن تكون أكثر قدرةً وتأثيراً، بل وتنشئ مجتمعات قائمة على قيم وأفكار جديدة.
*كاتب أردني