يتغير العالم في كل لحظة، وبين عشية وضحاها قد تتبدل ملايين الأشياء في الطبيعة والعلاقات والتحالفات والقرارات والتحديات، وكذلك الأمر في الاستراتيجيات الموضوعة، والمعدة سلفاً، والتي قد تحتاج أيضاً إلى المرونة والتغيير، بما يسمح استيعابها لحجم المتغيرات، والتعاطي معها بحنكة وذكاء.
يتفق معظم منظرو استراتيجيات الأمن القومي، على مدى التاريخ، أن دراسة ومعرفة الجوانب الاقتصادية والنفسية والأخلاقية المجتمعية، خلال التحديات الوطنية الاستراتيجية، لبناء قوى دفاع ناعمة موازية، تعادل فعلياً بناء القوة العسكرية القادرة على حسم المعارك الحربية الشرسة.
نظرياً، يستلزم إعادة رسم استراتيجيات دفاع محدّثة لتمكين حماية الوطن، في ظل الظروف المتغيرة الطارئة، ما يشبه الرسم الهندسي لعمليات هدم وبناء لجدران جديدة، لا تبلغ العمق والأساس الراسخ، بل تصحيحات صغيرة على ارتفاع الجدار من هنا، وخفضه من هناك، وتوسعته من ناحية، وإغلاقه من ناحية أخرى، ففي ظل جائحة كورونا مثلاً، يقوم مهندسو الدفاع في الصين وأميركا، في كل يوم، بإعادة مسح ورسم الجدران، بما يتوافق مع الرؤى السياسية، ورسومات الطرف الآخر، التي قد تأتي عبر التصريحات العلنية أو التسريبات، أو عبر العمل الاستخباراتي الموثوق.
عملياً، المسألة ليست بهذه السهولة، إنها عمليات معقدة تدرس الإمكانيات المتوفرة، وتحلل العلاقات، وتبحث في القدرات، وتحاول رؤية المستقبل، القريب والبعيد، وبالطبع، عليها أن لا تمس استراتيجيات الدفاع الثابتة، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، فتحافظ على السيادة الوطنية، وتبقي على الاتفاقيات والمعاهدات والتحالفات، وتقدم مخططاً واضحاً يبيّن حجم ومدى الخطوات، التي يجب اتباعها للتعامل مع الظروف المتغيرة الطارئة.
يجب أن لا تخضع استراتيجيات الدفاع الوطنية الداخلية، بأي وجه من الوجوه، للتغيير والتبديل، فهي في الأصل ثابتة وراسخة، ولكنها تحتاج إلى الصيانة الدورية، لفحص مدى التماسك المجتمعي، في ظل المتغيرات المجتمعية، وفي زمن الإعلام الصاخب، الذي اختلطت فيه المفاهيم بظهور مواقع التواصل الاجتماعي، التي بات معظمها تزويراً للحقيقة، عبر الحسابات الوهمية، التي تشكك في الهوية الوطنية، وتحاول إيجاد صدع وشرخ في الولاء والانتماء للقيادة السياسية.
لا شك أن مفهوم «الهوية الوطنية» قد يتوقف عند تأكيد الجنسية والولاء وقيم المواطنة الصالحة، لكنه قد لا يناقش أو يحدد «الهوية السياسية الوطنية»، ولا يتطرق إلى أهميتها وخطورتها، ومع أن الولاء وحده كافٍ لمعرفة ماهية الهوية السياسية الوطنية، إلا أن المعرفة والوعي بكافة اتجاهات القيادة السياسية، نحو الموضوعات العالمية المطروحة، ومستوى العلاقات مع الدول الفاعلة، قد يسلط الضوء على واحدة من أهم استراتيجيات الدفاع الوطنية، وهي التماسك المجتمعي، الحصن المنيع المقفل، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، أو من خلفه.
من المعروف أن الانفتاح على الآخر، قد يتسبب أحياناً بالاحتكاك الإيجابي أو السلبي، وقد يتسبب به أيضاً الإنغلاق، لكن استراتيجيات الدفاع الوطنية، التي تسعى لخلق حالة الثبات والتوازن، تحتاج أنصار القوى الدفاعية الناعمة، التي تقف بالمرصاد لأي احتكاك سلبي، تراقب أي تطور أو تصعيد، في الموضوعات المطروحة، وتتحرك بهدوء، بشكل مباشر أو غير مباشر، لوقفه ولجمه، أو توضيح اللبس، دون ضجة، ودون تكليف من أحد، بل بدافع الوازع الوطني المدرك الواعي الفطن.
يرى صناع الفكر الاستراتيجي، وبعد دخول صحافة المواطن، وهيمنتها على الصحافة التقليدية، ارتفاع منسوب التهديدات التي تلوّح بالحرب عبر وسائل الإعلام فقط، فيظن المتلقي عموماً، أن تركيا ستهاجم إسرائيل اليوم، وأن إيران ستضرب مواقع حيوية أميركية غداً، أو أن أميركا ستعلن الحرب على إيران أو الصين الليلة! ويرون أن هذا التلويح لمدة طويلة نسبياً، دون أي إجراء عسكري أو سياسي مباشر، والذي يسمى بـ «التهويش»، هي مجرد «سياسة التهديد الفارغ»، التي لا يجب أن تأخذ بها استراتجيات الدفاع على محمل الجد، لكنها تستلزم أيضاً بعض الإجراءات، كالرد الإعلامي المباشر أو غير المباشر.
يقول «كارل فون كلاوزوفيز»، في كتابه «في الحرب»: «لا تهتم برأي كلاوزفيتز، بل ما رأيك أنت؟»، ولذلك، علينا تأكيد هويتنا الوطنية السياسية، التي تضمن الولاء والانتماء المطلق للوطن والقيادة السياسية، وكذلك وخلال التحديات الاستراتيجية الطارئة والمتغيرة، أن نهتم بما لدينا من إمكانيات، وما يمكننا استخدامه من قدرات ومهارات فردية وجماعية للدفاع الواعي المسؤول عن الوطن.
*لواء ركن طيار متقاعد.