في مسرحية «يوليوس قيصر» للشاعر الانجليزي الأشهر وليم شكسبير، جاء في مديح «مارك أنطونيو» للإمبراطور الراحل العبارة التالية «الشر الذي يقترفه الرجال يعيش بعدهم، بينما الخير يوارى الثرى غالبا مع عظامهم».
ترددت هذه العبارة في ذهني، حين صوتت جامعة برينستون في الآونة الأخيرة بالموافقة على إزالة اسم الرئيس ودرو ويلسون من المباني والبرامج في المعهد العلمي الذي ترأسه من عام 1902 إلى عام 1910، قبل انتخابه رئيسا للبلاد عام 1912. واستند قرار الجامعة على أن ويلسون تبنى «سياسات وأفكار عنصرية، فقد كانت عنصريته هائلة وذات عواقب حتى بمعايير عصره. وقام بالعزل العنصري في الجهاز الاتحادي المدني بعدما كان اندماجياً منذ عقود، وبالتالي جعل أميركا تتخلف في مسعاها من أجل العدل. ولم يذعن للعنصرية فحسب بل أضاف إلى التقاليد العنصرية القائمة في هذه البلاد تقاليد (أخرى)، مازالت تؤدي إلى ضرر بالفعل حتى اليوم».
وأفلت «ويلسون» من حكم التاريخ لما يقرب من قرن، مما يقلب عبارة أنطونيو رأسا على عقب. لكن لم يعد الحال كما كان. فقد تعلم معظم الأميركيين في المدارس العليا والجامعات أنه بعد الحرب العالمية الثانية، خاض ويلسون صراعا لينشئ عصبة الأمم في مسعى لتفادي حرب عالمية ثانية تنبأ «بوقوعها بما يشبه اليقين، في غضون جيل آخر إذا لم تضع دول العالم وسيلة لمنعها». وتعلمنا أيضا أن الكونجرس الانعزالي عرقل محاولات ويلسون انضمام الولايات المتحدة لعصبة الأمم، رغم أن محاولات الرئيس الأميركي كانت الأكثر حماسا للانضمام.
وتأثر كاتب هذه السطور بمبادئ ويلسون الأربعة عشر الشهيرة التي دعت إلى اتباع الدبلوماسية العلنية بدلا من الاتفاقات السرية بين الدول وحرية الملاحة وإزالة العراقيل أمام التجارة الحرة والتقليص الكبير في الأسلحة وتقرير المصير للشعوب الواقعة تحت احتلال. ودفاع ويلسون عن هذا المبدأ الأخير ألهمني، خاصة حين علمت أنه شكل لجنة كينج-كرين لرصد توجهات وطموحات العرب في بلدانهم. وتوصلت اللجنة إلى أن العرب يتطلعون إلى الوحدة، ويرفضون ادعاء البريطانيين والفرنسيين بحق تقسيم المنطقة العربية والسيطرة عليها. لكن القوى الغربية تلك تجاهلت نتائج اللجنة، وهذا مما تأسف له ويلسون كثيرا.
باختصار، تعلمت أن ويلسون كان تقدميا وزعيما صاحب بصيرة في الشؤون الخارجية، وأفكاره كانت تسبق عصره. لكن في السنوات القليلة الماضية، قضيت عاما في جامعة برينستون أقوم ببعض العمل لما بعد الدكتوراه، وخلال هذا العام اتضح لي وجه آخر للرئيس ودرو ويلسون.
وانضممت إلى مجموعة صغيرة في شمال غرب واشنطن أزعجها للغاية ما علمته بشأن تطهير عرقي تعرضت له أسر من الأميركيين الأفارقة بعد حقبة ويلسون. ففي نهاية عشرينيات القرن الماضي، أُخرج مئات من مالكي المنازل السود من منازلهم ليفسحوا الطريق لبناء مدرستين تقتصران على البيض في ذاك الوقت. وإحدى هاتين المدرستين كانت ومازالت تحمل اسم ويلسون. ولم نسع كثيرا لتصحيح هذا الظلم التاريخي تماما بل أردنا التأكد من علم أجيال المستقبل بشأن حدوث هذه المأساة العرقية.
وكلما علمنا أكثر أصبحنا أكثر وعيا بالدور الخاص الذي اضطلع به ويلسون في إفقار السود وتعميق العزل العنصري في واشنطن. فقد عين جنوبيين من مؤيدي الفصل العنصري في مناصب وزارية. وهؤلاء أصدروا أوامر بالفصل العنصري في قوة العمل الاتحادية. فقد أُقيل مئات الأميركيين الأفارقة أو تم تقليص درجتهم الوظيفية. وظهرت لافتات «البيض فقط» و«الملونون فقط» في المكاتب الاتحادية. وتم تدمير حياة أشخاص ولم تتعاف قط من هذه الضربة أسر كثيرة عمل عائلوها بجد كي يصعدوا في مشوارهم المهني. لقد جعلت سياسات ويلسون المسرح مناسبا للتطهير العرقي الذي أشرت إليه هنا والذي حدث بعد سنوات قليلة من تركه البيت الأبيض.
ولم يكن ويلسون رئيسا تغاضى عن العزل العرقي فحسب، بل كان عنصريا مؤمنا بتفوق البيض. وسوغ سياساته بتعليقات عن الدونية الغريزية عند الأميركيين الأفارقة، وعن الفوائد التي يجنونها من وضعهم في مكانة الخاضع في المجتمع. ووصفهم بأنهم «عرق جاهل أدنى»، واعتبر العزل «نفعا وليس إهانة». وأشاد بجماعة «كو كلوكس كلان» باعتبارها «رجالا بيضا تحركهم محض غزيرة الحفاظ على الذات ليخلصوا أنفسهم من عبء لا يحتمل من حكومات تدعمها أصوات الزنوج».
وكلما علمت جماعتي بشأن السياسات والآراء المؤسفة لويلسون شعرنا بالحنق أن اسمه تحمله واحدة من مدارس البيض (مدرسة ودرو ويلسون العليا) التي أقيمت على أرض مجاورة لمنطقة أُخرجت منها أسر سوداء من ديارهم. وبدأنا حملة لدفع الإدارة التعليمية في واشنطن على تغيير الاسم. ومن المثير للحنق بالفعل أن الجانب الشرير من تاريخ ويلسون دُفن معه، بينما بقيت الصورة الجميلة، على عكس مقولة أنطونيو. فقد تعلمنا أن ويلسون كان تقدمياً يدعو إلى التعاون بين الدول، لكننا أصبحنا نعلم الآن أنه كان عنصرياً، دمر حياة الآلاف وأضر بمستقبل الملايين.
رئيس المعهد العربي الأميركي- واشنطن