في ديسمبر 1918، وصل وودرو ويلسون، الرئيس الثامن والعشرون للولايات المتحدة الأميركية، إلى باريس، بهدف المشاركة في مفاوضات فيرساي، من أجل إنهاء الحرب العالمية الأولى رسمياً، وحول هذه الزيارة، كتب كاتب سيرة حياته، «إيه. سكوت بيرغ» يقول: «لقد كان الرجل صاحب أكبر قدر من الحب والاحترام على وجه البسيطة، ذلك أن العالم بأسره كان يهتف له، والتقدير الذي لاقاه كان كبيراً للغاية، والواقع أن الحشود التي خرجت من أجل الترحيب بويلسون تجاوز عددها المليون، وربما كانت الحشودَ الأكبر التي تجمعت في مدينة الأنوار على الإطلاق»، وتكريماً له، أُطلق اسمه على بعض الشوارع والفنادق في أوروبا، وفي عام 1919، مُنح جائزة نوبل للسلام.
غير أنه في السابع والعشرين من يونيو 2020، قررت جامعة برينستون إزالة اسم ويلسون من مدرسة العلاقات الدولية الشهيرة التي كانت تحمله، أما السبب، فهو مواقف ويلسون وسلوكه العنصري تجاه الأميركيين السود خلال فترة رئاسته.
ويُعد ويلسون واحداً من الرجال المشهورين الذين بات سجلهم في العلاقات بين الأعراق يخضع لإعادة التدقيق والتمحيص، فعلى مدى سنوات، ما فتئ الطلبة في جامعة أوكسفورد الإنجليزية يطالبون بإزالة تمثال لسيسيل رودز من على واجهة كلية «أورييل كوليدج». وكان رودز رئيس وزراء سابق لمستعمرة «كيب» في جنوب أفريقيا، ومناصراً كبيراً للإمبريالية، وقد سميت منح رودز الدراسية الشهيرة باسمه، لكن في هذا الشهر وافقت الكلية على أن التمثال الذي أقيم تكريماً له يرمز للإمبريالية والعنصرية بالفعل، ويجب أن يرحل.
والواقع أن صعود حركة «حياة السود مهمة»، الذي فجّره قتل الشرطة لجورج فلويد في مدينة مينيابوليس الأميركية في 25 مايو 2020، أدى إلى مظاهرات قوية ضد العنصرية في الولايات المتحدة، والعديد من البلدان الأخرى ذات الماضي الكولونيالي، ففي بريطانيا، مثلاً، ذهبت الاحتجاجات إلى حد الدعوة إلى إزالة تماثيل وينستون تشرتشل، الذي ربما يُعد الإنجليزي الأشهر في القرن العشرين، إذ يُتهم تشرتشل بدعمه للكولونيالية، وبسعيه لوقف جهود غاندي وآخرين للمطالبة باستقلال الهند.
وفي الولايات المتحدة، تركزت أبرز الجهود على إزالة كل البقايا الرسمية لـ«كونفدرالية الولايات الأميركية»، التي أشعلت الحرب الأهلية الأميركية في عام 1861 لأسباب من بينها رفضها قبول إلغاء العبودية، ففي أعقاب تلك الحرب وعودة اتحاد الولايات المتحدة، جمع أنصار الولايات المتمردة المال، من أجل إقامة عدد من التماثيل لجنود الكونفدرالية وسياسييها، كما قررت العديد من الولايات الجنوبية الاحتفاظ بعلم الكونفدرالية، وإدراجه ضمن الأعلام الرسمية، والحال أن الأميركيين السود يجدون أن رموز الماضي تلك مهينة ومسيئة لهم، وما انفكوا يدعون إلى إزالتها منذ سنوات عديدة، ونتيجة للتعاطف القوي مع حركة «حياة السود مهمة» خلال الشهور الأخيرة، شُرع في سحب العديد من هذه التماثيل من الأماكن العامة إلى المتاحف، واعتباراً من 29 يونيو، لم تعد أي من الولايات الجنوبية ترفع علم الكونفدرالية على المباني الرسمية، ولعل الأكثر دراماتيكية من ذلك هو أن بعض الفعاليات الترفيهية ذات الشعبية الواسعة، مثل «الجمعية الوطنية لسباق السيارات» (ناسكار)، حظرت علم الكونفدرالية بشكل صريح، وغني عن البيان أن هذه التطورات ما كان يمكن أن تحدث قبل مقتل جورج فلويد والضجة التي أثارها.
لقد كان ثمة الكثير من الاحتجاجات على مدى ستين سنة الماضية في الولايات المتحدة، من أجل الاعتراف بالآثار الضارة للعنصرية على المجتمع الأميركي، وبالحاجة إلى التغيير، واليوم، باتت الدعوات إلى مقاربة جديدة جذرية للتغيير تحظى بدعم الكثيرين بين الأميركيين البيض، وخاصة في صفوف الشباب الذين باتوا منخرطين على نحو متزايد في الحياة السياسية، ويمكن القول: إن الولايات المتحدة لم تعرف مثل هذا التصميم على معالجة الحاجة إلى التكفير عن خطيئة أميركا الأولى -العبودية- منذ اغتيال مارتن لوثر كينج (الزعيم المدافع عن الحقوق المدنية للسود)، والآن يبدو أن الإرادة السياسية لتحقيق ذلك ربما بدأت تتوافر.