في 29 أبريل 1992، كنت جالساً بإحدى حلقات النقاش المطلوبة مني كطالب للدكتوراه في لوس أنجلوس، وعندما بدأنا الجلسة كانت المدينة في أوج جمالها وصخبها المعتاد، وبينما نحن في الاجتماع دخل علينا رجال أمن الجامعة، وطلبوا من الجميع العودة إلى بيوتهم، لأن المدينة لم تعد آمنة، وبمجرد الخروج من الجامعة رأينا الحرائق المشتعلة من بعيد، وسمعنا طلقات الأعيرة النارية، وكان الفزع والهلع والمرج، بعدها عرفنا أن المحكمة برّأت رجال الشرطة الذين اعتدوا بالضرب غير المبرر على «رودني كينغ».
تذكرت تلك الأحداث، وأنا أتابع مجريات تفاعل العالم مع قضية مقتل جورج فلويد بتاريخ 25 مايو 2020، لكن اليوم غير البارحة، فمع انتشار وسائل التواصل الحديثة، لم تعد القضية في ولاية محددة، بل طافت تداعياتها ولايات أميركية كثيرة، وعبرت البحار إلى أوروبا، وعلق عليها زعماء العالم، ومن يهمهم موضوع العدالة الإنسانية، لا يختلف اثنان على أهمية العدالة وضمان حقوق الإنسان، وكلنا أسف على مصير جورج، الذي بات رمزاً جديداً لانتهاك حقوق الملونين في أميركا، لكن البعض بدأ يستثمر هذا الخطأ غير المبرر للتهكم على الولايات المتحدة، رأينا زعماء دول تعيش قمة التخلف الاقتصادي، وتمارس أقصى أنماط الديكتاتورية، تتوعد أميركا بالفناء والزوال لعدم احترامها حقوق الإنسان، وشر البلية ما يضحك كما تقول العرب.
الولايات المتحدة الأميركية تمثل، من وجهة نظري الشخصية، خلاصة تجارب البشرية في مختلف الأصعدة، فلديهم ديمقراطية راسخة تطورت من الديمقراطية الأوروبية، وأهم مرتكزاتها الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، لذلك رأينا القضاء يحقق مع أحد الرؤساء الأميركيين، وتابعنا محاكمة الرئيس الحالي من قبل الكونجرس، كما أن لديهم حرية إعلام بحصانة دستورية راقية، لذلك نجد الإعلام يكشف المسكوت عنه، ويتسابق في بث مخالفات كافة الجهات، فهو يمثل رقابة أخرى ترقى بالمجتمع الأميركي، حتى إن إعلامهم كان سبباً في استقالة أحد رؤسائهم، القوة العسكرية الأميركية لا تضاهيها جيوش العالم، إضافة لقواعدهم المنتشرة حول المعمورة، لديهم مدن عسكرية تجوب بحار العالم بكل حرية، نجحت أميركا في أن تكون مركزاً أكاديمياً عالمياً، فلديهم أرقى الجامعات ومراكز البحث العلمي، ومن هنا نرى أن جل جوائز نوبل تتجه نحوهم، يمثلون أقوى اقتصاد في العالم، ويكفيهم أن الكثير من دول العالم ربطت عملتها بالدولار الأميركي، ترى ما هو السر وراء هذه القوة؟
القدرة على التكيف هذا هو سر تميز أميركا لمن يسأل عنه، ومحور هذه القدرة هو صوت الإنسان وفكره، فعبر صناديق الاقتراع يستطيع الشعب الأميركي إخراج من شاء من البيت الأبيض أو الكونجرس، كما أن حكام الولايات المختلفة ومجالس التشريع تمر بالمعادلة نفسها، وهي إما أن تحقق ما أراد الإنسان، أو تغادر بكل كرامة ذلك المكان، هذا الأمر هو مصدر ازدهار أميركا، فمع كل أزمة يكون هناك تطوير للتشريع وللتنفيذ، ويرى العالم تجديد الدماء في القيادات والأهداف والاستراتيجيات.
*أكاديمي إماراتي