هناك جدل كبير في الأوساط الثقافية العالمية، حول كيفية حماية اللغات الوطنية من هيمنة اللغات الأجنبية، وبخاصة الإنجليزية منها، لأنه في غياب تلك الحماية تترسخ تبعيةٌ لغوية وثقافية ومؤسساتية، وهذه الظاهرة لا تسلم منها حتى الدول المتقدمة، بما فيها فرنسا التي تعاني من كثرة المعاهد والمؤسسات التي لم تعد تدرس إلا باللغة الإنجليزية.
وتقول دراسة، نشرتها جامعة كامبريدج: إن في الصين نحو 350 مليون شخص لديهم معرفة باللغة الإنجليزية، وهو عدد يضاهي عدد الأميركيين الذين يتكلمونها كلغة أولى، إذ إن خُمس الأميركيين يتكلمون لغة أخرى غير الإنجليزية في بيوتهم، ويقدر المنتدى الاقتصادي الدولي أن حوالي مليار و500 مليون شخص حول العالم يتكلمونها.
ولا يمكن أن يختلف اثنان على أن الإثراء والتفاعل يتأسسان على شرط النهوض باللغة الوطنية والحفاظ عليها، ثم تشجيع تعليم اللغة الأجنبية –حسب رغبة المتعلم- لإتقانها كلغة ثانية، وذلك في إطار ثنائية لغوية، تتوخى توظيف اللغة الأجنبية في سياقها المعرفي والتواصلي والثقافي.
وكل متتبع للشأن اللغوي في العالم سيخرج بقناعة، مفادها أن التعدد اللغوي لا يمس مكانة اللغة الأم إذا كانت التشريعات تحفظ مجالات استعمالها، وتضبط رسميتها بقوانين زجرية، كما هو الشأن في العديد من الدول التي تحترم لغتها الوطنية، ثم لا بد أن نشير إلى أن الاختراق الثقافي اليوم لا يمكن أن ينجح في ظل العولمة، إلا إذا توفر على مناعة دائمة، عندما يصبح ثقافة جماهيرية، أي عندما تجد الجميع يستهلكها، ولا غرو أن استهلاك الثقافة في مجتمعاتنا المعاصرة له علاقة بالعرض والطلب وبالسوق وبالصناعة الثقافية، حيث أضحت للثقافة قيمة تبادلية.
ومن البديهي، أن وجود سوق ثقافية يتوقف على وجود مستهلك ثقافي، كما أن أساس الاستهلاك الثقافي هو توفر القراء والنقاد للأدب والشعر، والإعلاميين والمحبين للثقافة، والصناعة الثقافية في كل مجالاتها: مطابع الكتب ودور النشر والمعارض الفنية، التي تمنح الثقافة قيمة تبادلية واستهلاكية، إلى غير ذلك.
ولا غرو أن الثقافة المحلية تواجه تحدي العولمة الثقافية، جراء تنقل البضائع والسلع والمنتوجات الثقافية عبر حدود الأوطان، داخل عولمة ثقافية قد تجعل تقاليد الأعراس في المغرب تطرب الياباني، والأطباق الإيطالية تباع في المغرب، والوجبات السريعة الأميركية تباع في جل بلدان العالم، كل هذا ممكن نظراً لكون الثقافة أضحت مرتبطة بالصناعات التي تحول الأشياء الثقافية إلى بضاعة، وما يولده ذلك من انتشار سريع للإنتاج والاستهلاك الثقافيين.
ويلاحظ أيضاً في إطار العولمة، تضافر الرأسمال والتكنولوجيا والبضاعة والإعلام. وعندما نتأمل في مبيعات الإنتاج الفني في السوق العالمية، ندرك أن وضع الثقافة مرتبط بهذه الالتقائية، مما يؤثر على الثقافة ليجعل مكوناتها تخضع للعرض والطلب، وأفضل مثال يمكن أن نعطيه هنا هو شبكة «نتفليكس»، التي عندها 183 مليون مشترك حول العالم، وأضافت عدداً مذهلاً من المشتركين بلغ 16 مليوناً في الربع الأول من 2020، لا سيما بعدما أدت جائحة فيروس كورونا إلى بقاء الناس في منازلهم، ودفعتهم للتفاعل مع محتوياتها الدارامية والوثائقية، والتي ولّدت نقاشات على الإنترنت ومقالات رأي في أنحاء المعمور.
وقالت الخدمة: إنها تتوقع إضافة 7.5 مليون مشترك آخر في الربع الثاني من العام، وزادت أرباح نتفليكس في الربع الأول من 2020 بأكثر من الضعف، أي إلى 709 ملايين دولار مقارنة بـ344 مليون دولار في نفس الفترة من العام السابق، هذا المثال الذي أعطيه لا تفلح فيه إلا البلدان أو الشركات التي لها صناعة ثقافية كبرى، ويمكنها أن تستقطب عدداً وافراً من المستهلكين للثقافة، فإحدى الحواجز التي تعوق التنمية الثقافية، دون جعلها جماهيرية في واقع مجتمعاتنا هو الأمية، لا الأمية الأبجدية فحسب، وإنما أيضاً الأمية الثقافية التي تعكسها المؤشرات حول عدد الأفلام المنتجة والمسلسلات والقراء ومبيعات الكتب ودور النشر، وهذه المعطيات وغيرها مع ما أفرزته وستفرزه جائحة كورونا، ستجعل لغات العالم وثقافات البلدان تحت محك تحديات كبيرة.
*أكاديمي مغربي