مع تعدد هوامش جائحة كورونا المستجد، السياسي منها والاقتصادي، فإن جانبها الاجتماعي هو الأقسى، لما لملف الاختلال الديموغرافي من تبعات، أقلها الاتهام باحتقار الأعراق الأقل حظاً اقتصادياً، أو تناسي أفضالهم في خدمة مجتمعاتنا في كل الوظائف التي نترفع عنها نتيجة ثقافة البحبوحة النفطية. قد تتعدد المداخل لمثل هكذا موضوع، إلا أن لا علاقة للموضوع بهذه العمالة، بل معالجة إدمان الكسل لدينا، لدرجة تحوله مورثاً اجتماعاً مقيتاً، يتجاوز حدود بعض دولنا، ليتأصل في ثقافة مجتمعات أخرى.
دول الخليج العربية، ليست الوحيدة في البحث عن العمالة في عالم الأمس أو اليوم، ولكننا نمتاز بحالة إدمان فريد من نوعه على عمالة غير مؤهلة، تأتينا من دول متعثرة التنمية اجتماعياً واقتصادياً. نتيجة ذلك، تحولت اقتصاداتنا إلى شكل من أشكال الضامن الاجتماعي لهذه الدول على حساب برامجنا التنموية وطنياً، وأخطر مظاهرها انتفاء تكافؤ الفرص في سوق العمل. والآن، ننكشف اجتماعياً نتيجة عدم انضباط هذه العمالة في الالتزام بضوابط الوقاية المقررة. وذلك ليس نتيجة سوء نية مبيتةٍ لديها، بل محدودية ثقافتها وتخلق مجتمعات رديفة داخل مجتمعاتنا حاضنة لتلك الثقافة.
التصالح مع كسلنا، وهو أحد موُروثات البحبوحة النفطية، أمر سيقلل من حظوظ استدامة مجتمعاتنا، وسوف تتلاشى تدريجياً ملامح هويتنا الوطنية نتيجة ذلك. وعلينا الاعتراف باستحالة مواجهة التحديات المستقبلية، إن استمرأنا خطر عدم تكافؤ الفرص في سوق العمل، وهو في حالة انكماش متصاعد، نتيجة للثورة الصناعية الرابعة. ما نحتاجه الآن وقبل أي أمر آخر، هو إقرار الحدود الدنيا للرواتب والأجور بما يضمن الكرامة الإنسانية، وأن تراعي المعايير كلفة المعيشة في دولنا، لا الدول التي تقدم منها تلك العمالة، وأن يقوم على وضع تلك المعايير مختصون من أبنائنا ممن يملكون الخبرة والدراية في شؤون التنمية البشرية والاجتماعية.
لهذه الجائحة، رغم قساوة مظاهرها الإنسانية، فوائد عدة، أولها إعادة اكتشاف قيمة الخلية الأولى في كل المجتمعات، ألا وهي العائلة. وكلنا يلحظ مظاهر ذلك، فالتباعد الاجتماعي أنتج تقارباً أسرياً غير مسبوق. وتخبرني إحدى الزميلات أن زوج إحدى صديقاتها المقربات هو من بات يطبخ كل الوجبات ويشارك في المذاكرة للأولاد، بل امتد ذلك إلى لعب لعبة «الكيرم» مع زوجته. هذه ليست حالة خاصة، وجميعنا يتلمس مثلها اجتماعياً.
هل سنتمكن من التصالح مع تاريخ كسلنا الاجتماعي وننطلق فور تلاشي الجائحة في إشهار ملامح لذلك؟ وليكن أولاها إعطاء شبابنا وظائف جزئية في قطاع الخدمات على مدار العام، وليس فقط في الإجازات الصيفية. ويجب أن تتضمن السير الذاتية لهم شهادات العمل الجزئي أو التطوعي، كشرط من اشتراطات التقدم بطلب التوظيف. معالجة الاختلال الديموغرافي يجب أن تبدأ بالاعتراف بكسلنا أولاً، أما ثانياً، إن تَحجج قطاعنا الخاص بصعوبة إيجاد البدائل وطنياً، هو محض افتراء، وتاريخنا الاجتماعي شاهد على ذلك.
هناك مهن عدة في جميع القطاعات الاقتصادية التي تضمن العيش الكريم للمشتغلين بها، بل يضمن بعضها الارتقاء العلمي والاقتصادي. وعلينا الاعتراف أن زج كل أولادنا في الجامعات، بدل المعاهد المهنية والحرفية، هو ممارسة الجُور على المستقبل، وبدلاً عن إضاعة المزيد من الوقت والموارد المحدودة في تجريب مُجرب.
*كاتب بحريني