من الشخصيات الظريفة والمحببة في السفر، وإن كانت تحظى ببعض التذمر في البداية، شخصية الآباء الأوصياء، فهم الوحيدون الذين يليق أن نطلق عليهم الآباء في الحِلّ، والأوصياء في السفر، أو هم مثل «الأخ الأكبر» بالمصطلح الإنجليزي، والذي لا عمل له ولا مشغلة، إلا مراقبتك، وكَيْل الوصايا لك، أو هم مثل العرّاب الذي يحب أن تمشي تعاليمه، لأنه يعرف مصلحتك أكثر منك، مثل هؤلاء الناس لا مهنة لهم إلا تذكير الناس ببديهيات يدركونها، وبأشياء صغيرة، ويعدونها كبيرة، قد لا تكون غائبة عن بال الآخرين، مهمتهم في الحياة حراسة ذاكرة الجماعة، وممارسة الوصاية عليهم، فالشخص من هؤلاء إذا ما سافر مع مجموعة ينصّب نفسه مسؤولاً مباشراً عن ذاكرتهم، ويزكي نفسه لأن يكون القائد الآمر، والوالد الحاني، ولا تعرف هل هو الخوف على نفسه أثناء السفر، يجعل حرصه على الجماعة أكبر؟ أم هلعه من النسيان الذي يمكن أن يسبب خسائر أو يعطل برنامجاً هو السبب؟ أم أنه الحرص الزائد لكي تسير الأمور كما ينبغي، فلا تكون هناك عرقلة أو تعثر أو خسارة أو مشكلة من المشكلات التي يتمنى أن يتحاشاها قبل وقوعها، لذا تجده مدججاً بحقيبة في اليد، ومحزم حول الخصر، و«خريطة نايلون» تضلل اللصوص والنشالين، ولا يطمع في ما فيها الطامعون.
أول مهام قائد الكشافة هو تذكير جماعته المسافرة معه بجوازات السفر: «لا تنسوا جوازاتكم، أقول لكم: كل واحد جوازه عنده أو أحسن حطّوهن كلهن عندي أسلم وأضمن، مب نروح المطار، وإلا في نصف الطريق، والله نسيت جوازي أو (أجَّلت) على الحرمه تحطه لي في الشنطة، تراها تصير دوم مع ربعنا، ونتَمّ على أعصابنا، محتاسين، ونرجع مسرعين بسياراتنا نسابق الطريق أو تفوتنا الطيارة».
وإذا ما نسي قليلاً جوازات السفر، انتقل لحقائب السفر، والتي تصبح مثل أصغر عياله «يحاتيها»، ولا تفارق عينه، ويعرف ألوانها، والتي يمكن ألا يتذكرها صاحبها الأصلي، دائماً حقائب السفر معضلته، لأنه يخاف عليها الضياع أو أن أحداً يلْطمها في غفلة منهم، كذلك يخاف أن تسير لقبلة أخرى، ولا ندري ما هي قصته مع أفريقيا والأفريقيين، دائماً ما يُذكرنا: «إن ضاعت شنطكم، والله ما تلقونها إلا في نيجيريا أو غينيا بيساو أو في أدغال أفريقيا، يعني وين إبليس ملَتّه عياله».
ينتقل صاحبنا من هَمّ الجوازات إلى هَم الحقائب إلى هَمّ الفلوس، وهي تحل في المرتبة الثانية بعد الجوازات في أهمية الضياع، والتيه، والغربلة، والعثرة التي بلا آخر، لذا وصاياه المتكررة: «حطّوا فلوسكم في مكان أمين، ولا تشلّون وياكم أكثر من حاجتكم، حتى تشوف مخبأ الواحد منكم تقول غز سحّ، خزنة الغرفة ما تفيد، ترا اللي يكشبنّ الغرفة خاصة الأفريقيات بيلطمن غوازيكم، خلّوا فلوسكم في صندوق أمانات الفندق أضمن، وآه.. ها تشلّون وياكم أكثر من عشرة آلاف يورو، وأنتم سايرين أوروبا، وتخطفون عند الجمارك مشرّقين، جنكم خبر خير، تراهم بيغرمونكم، وإلا بيصادرونها، وانتم ما لاقينها لايثة، تراكم ضاربين فيها بخْصيّن وكَبّ»!
ويظل صاحبنا يهيل من نصائحه، وتذكيره ووصاياه، وكأنها لتلاميذ غير نجباء: «تذخروا بثياب غلاظ، ولا تلبسون كشمه مقَلِّدَة، تراهم في أوروبا بيغرمونكم، وبيأخذون قيمة النظارة الأصلية منكم، وبيكسرون المقَلِّدة قدام عيونكم، ولا تتميلحون يوم تشوفون حريم الغربتيه، ترا عندهم عطران الشوارب صدق، واللي زنده يمشي عليه التيس هذاك كبره، واللي رابط رأسه بلا وجع، أبو الدراجة النارية التي على طول مد رجليه، وإلا هذاك أبو وشم، وشنب أصهب من الغليون، والله ليمردغكم مردغة، وأنا بصراحة على الضرابة ما أروم، وأنتم والله أنكم، وشغل تمارين (الجيم) تراه في حزتها ما ينفع، ولا تنسوا تسألون عن المطعم اللي بنتعشى فيه الليلة، وأكدوا عليه نحن ما نأكل لحم خنزير، والله لو سمعتم رأيي المطعم التركي أبرك لنا، بدلاً من هالمطعم الصيني اللي ما تعرف شو يزغدون، ويقدمونه لنا».
حارس ذاكرة الجماعة دائماً بالمرصاد، لكل صغيرة وكبيرة، ولو سافرت معه ثانية فستسمع منه الشريط نفسه، وكلما كبر في السن، كلما كان ألعن، وإذا ما تقاعد، فالأفضل لك ألا تسافر معه، تراه بيلزمك بالضبط والربط، وقصوره ينش الصبح، ويصفر لك بصفارته العسكرية، ويصرخ عليكم: «فولين»! وغداً نكمل.