قيمة التسامح، كأيّ قيمة إنسانية أخرى، تحتاج إلى من يرعاها ويدعمها ويعمل على ترسيخها في المجتمع بصفتها ثقافة عامة، فالافتراض الذي يقول إن المنظومة القِيَمِيَّة الحاكمة لأي مجتمع أو منطقة ثابتة ولا تتغير هو افتراض غير صحيح، ويخالف سنة الله في الكون التي يحكمها التغير والتبدل بتغير الظروف والأحوال. وقيمة التسامح، كغيرها من القيم، ليست عصيَّة على التغير والضعف، وحتى الإحلال بقيم أخرى مناقضة لها ومتعارضة معها، إذا لم تجد من يدعمها، ويحافظ عليها، ويعمل على ترسيخها في المجتمع باستمرار. وهذا بالضبط ما يفسر لماذا أقدمت دولة الإمارات العربية المتحدة، في السنوات الأخيرة، على إقرار العديد من المبادرات والتشريعات والقوانين التي ترسّخ قيمة التسامح في مجتمع هو بطبيعته وثقافته وتاريخه مجتمع متسامح. وهو الأمر الذي كان صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، معبّراً عنه بوضوح، في مقال نشره في مارس 2016، وحاول من خلاله أن يشرح سبب تعيين وزير للتسامح، قائلاً: «التسامح ليس كلمة نتغنى بها فقط، بل لا بد أن تكون لها مؤشرات ودراسات وسياسات وترسيخ سلوكي في مجتمعنا، لنصون مستقبله، ونحافظ على مكتسبات حاضره».
ويزخر التاريخ البشري الحديث بالعديد من الأمثلة لقادة وشخصيات شكلوا أيقونات لنشر قيم التسامح والعَيش المشترك في مجتمعاتهم والعالم، وجعلوا من التسامح «عنصر قوة» و«أساساً صلباً» لبناء مجتمعات متسامحة ومتآلفة، نجحت في أن تشق طريقها نحو النهضة والتقدم، في وقت سقطت فيه مجتمعات أخرى في دوائر مغلقة من العنف والعنف المضاد نتيجة تغليب لغة الانتقام والكراهية وعدم التسامح. وسأكتفي هنا، بطبيعة الحال، بالإشارة إلى عدد محدود من هذه النماذج التي توضّح كيف يمكن لشخص واحد مؤمن بقيمة التسامح أن يغيّر واقع مجتمعه نحو الأفضل، ويرسم له مساراً رائداً في السلام والتنمية والاستقرار.
زايد وتجسيد قيمة التسامح
لقد تعرضتُ في مقالات سابقة لي للدور المهم الذي أدَّاه المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيَّب الله ثراه، في ترسيخ ثقافة التسامح بالمجتمع الإماراتي، ولكن لا يمكن أن نتحدث عن رواد التسامح في المنطقة والعالم من دون أن نشير إلى هذا الزعيم العربي الحكيم، الذي رفع راية التسامح ورسَّخه بصفته ركيزةً أساسيةً لصنع أعظم تجربة وحدوية في التاريخ العربي الحديث، وقاعدةَ ارتكاز لبناء أفضل نموذج تنموي تحاول كثير من دول العالم شرقاً وغرباً الاقتداء به. لقد كان الشيخ زايد، رحمه الله، مجسّداً لقيمة التسامح في كل أقواله وأفعاله، داخل دولة الإمارات العربية المتحدة وخارجها، حتى أصبح يشكل رمزاً وطنياً وخليجياً وعربياً، بل عالمياً، للتسامح، فلا يُذكَر رواد التسامح إلا ويُذكَر زايد الخير، رحمه الله.
مانديلا والإيمان بالتسامح
ومن النماذج المهمة التي يمكن الإشارة إليها الزعيم الجنوب أفريقي الراحل نيلسون مانديلا، الذي ارتبط اسمه بمسيرة طويلة من الكفاح والآلام من أجل تحرير بلاده من نظام الفصل العنصري البغيض، واستطاع من خلال نهجه في التسامح والمصالحة بناء نظام سياسي تعدُّدي مستقر يتسع للجميع في جنوب أفريقيا، على الرغم من الظلم والمعاناة اللَذين تعرض لهما هو والأغلبية السوداء من قبل الأقلية البيضاء التي كانت تحكم البلاد. وأهم ما في شخصية نيلسون مانديلا، التي تناولتُها بشيء من التفصيل في كتابي الصادر عام 2016 بعنوان «بصمات خالدة: شخصيات صنعت التاريخ وأخرى غيَّرت مستقبل أوطانها»، والتي وضعته في سجل عظماء التاريخ البشري، هو إيمانه الذي لم يتزعزع بقيمة التسامح وأهميته في بناء الأوطان، فعلى الرغم من أنه تم سجنه أكثر من 27 عاماً، تعرَّض خلالها لصنوف عدَّة من الظلم والتعذيب، فإنه لم يغلّب نوازع الانتقام من سجَّانيه البيض بعد أن نجح الشعب الجنوب أفريقي في إسقاط نظام الفصل العنصري، وإنما غلَّب نوازع التسامح والعفو، فعفا بعد توليه منصب رئيس البلاد عن الذين تسببوا في تعذيبه ومعاناته، ولم يلجأ إلى استبعاد الأقلية البيضاء التي طبَّقت نظام الفصل العنصري، وإنما عمل على بناء نموذج رائد للتعايش السلمي بين مختلف الأعراق والأجناس في جنوب أفريقيا، وهذا النموذج هو الذي ضمن لهذا البلد الإفريقي التقدم والازدهار، وهو الذي أهَّل نيلسون مانديلا للحصول على جائزة نوبل للسلام عام 1993، وجعل منه رمزاً من رموز التسامح في العالم.
تجربة المهاتما غاندي
وفي الهند تبرز أمامنا تجربة المهاتما غاندي الملهِمة، وهو صاحب منهج «اللاعنف»، ورمز التسامح والتعايش بين البشر بصرف النظر عن انتماءاتهم ودياناتهم. لقد ناضل غاندي أكثر من 50 عاماً من أجل تحقيق استقلال الهند، رافعاً مبدأ «المقاومة السلمية»، ورافضاً مبدأ العنف وإراقة الدماء حتى في مواجهة الاحتلال البريطاني لبلاده. وفي عام 1922 قاد حركة عصيان مدني ضد الاحتلال البريطاني، وكانت هذه الحركة فاعلة للغاية، لكن عندما وصل الغضب الشعبي إلى حد اصطدام بعض الجماهير الهندية بقوات الاحتلال البريطاني، ووقوع أعمال عنف، سارع غاندي إلى إيقاف هذه الحركة، حتى لا تضر بنضاله السلمي ومنهجه القائم على «اللاعنف»، الذي ضمن له في نهاية المطاف تحقيق هدفه الأسمى المتمثل في استقلال الهند عن بريطانيا. كما كان غاندي من المنادين باحترام حقوق جميع الأفراد بمختلف أديانهم وطوائفهم واختلافاتهم العرقية والاثنية، ورفض أي تمييز بينهم، ففي مرحلة الاستقلال ارتفع مؤشر الاضطرابات الدينية في الهند، مع اتجاه باكستان إلى الانفصال عنها، وهو الأمر الذي كان يؤلم غاندي، ويعدُّه كارثة وطنية، فأخذ يدعو إلى نبذ النعرات الدينية والطائفية، وإعادة الوحدة الوطنية بين المسلمين والهنود، لأنه شاهد خلال الفترة التي قضاها في جنوب أفريقيا (1893-1915) كيف أضعفت النزعات العنصرية والطائفية نسيج المجتمع، بل إنه دافع عن حقوق الأقلية المسلمة في الهند، ودعا الأكثرية الهندوسية إلى احترامها، ما تسبَّب في غضب بعض المتطرفين الهندوس الذين اغتاله أحدهم عام 1948، منهياً رحلة زعيم أفنى حياته دفاعاً عن قيم التسامح والسلام.
زعامة بول كاغامي
ومن الأمثلة الحديثة، التي تثير الإعجاب هنا، النموذج الذي قدَّمته رواندا بزعامة بول كاغامي، الزعيم الإفريقي الذي قاد نضال الروانديين للتحرُّر من هيمنة الفكر العنصري الاستعلائي، وإنهاء أسوأ جرائم الإبادة الجماعية في العصر الحديث، رافعاً شعار العفو والعدالة. فقد ارتبطت رواندا في أذهان الجميع بالإبادة الجماعية التي وقعت ضد أقلية التوتسي العرقية من قبل الأغلبية العرقية من الهوتو في أبريل 1994، والتي حصدت أرواح أكثر من مليون شخص خلال 100 يوم فقط، وتركت جروحاً عميقة في نفوس الروانديين لم يكن من المتوقع أن تندمل قبل عشرات السنين، لكن السياسات التي انتهجتها الحكومة الرواندية برئاسة بول كاغامي، بعد هذه الإبادة الجماعية الأكثر وحشيةً في تاريخ البشرية الحديث، كانت حقاً مثيرة للإعجاب، فقد أطلقت الحكومة ما وُصِف بأنه حملة هندسة اجتماعية جريئة، أصبح الروانديون بموجبها يعرفون أنفسهم بهويتهم الوطنية بصفتهم روانديين فحسب، وليس بهويتهم العرقية، وتم تجريم كل ما يشير إلى العنصرية، بل حُرّم على الروانديين نطق كلمتي توتسي وهوتو، لينأوا بأنفسهم عن الاثنية والاستعلاء العرقي البغيض، كما تبنَّت الحكومة نظاماً تقليدياً لتطبيق العدالة يُدعى «جاكاكا»، يسمح للمجتمع بمحاكمة الجناة، وقبول طلب الغفران والعفو، ويلغي عقوبة الإعدام، حتى لا تتعمَّق الجراح والمآسي بإعدام الآلاف من القَتَلة، وكانت الأحكام التي تصدر عن هذه المحاكم تتراوح بين الحكم على بعضهم بخدمة الصالح العام، وعلى بعضهم الآخر بالسجن، بحسب مدى خطورة الجرائم المرتكَبة، وتم إغلاق هذه المحاكم رسمياً في عام 2012 بعد أن نظرت نحو 1.9 مليون قضية، لتطوي رواندا معها صفحة الإبادة الجماعية السوداء الأسوأ في تاريخها، بإعلاء قيم التسامح والعدالة، والتفرُّغ لعملية التنمية الاقتصادية التي حققت فيها نتائج باهرة. لقد أعلى الروانديون، برئاسة بول كاغامي، فضيلة التسامح على عقلية الانتقام، وطَوَوْا صفحة الإبادة بالتسامح الذي طغى على قلوبهم ومعاملاتهم، وكان هذا طريقهم إلى تحقيق النهضة والتقدم، وتقديم نموذج رائع في التسامح والتنمية إلى البشرية.
التسامح قوة
إن هذه الأمثلة التي طرحتها، وغيرها الكثير الذي لا يتسع المقام لذكره هنا، تؤكد حقائق عدَّة مهمة، الأولى أن التسامح قوة لأي مجتمع، تعزّز وحدته وتماسكه وتآلف أبنائه، فبالتسامح خرجت دول مثل جنوب أفريقيا ورواندا من حقب مظلمة ودموية كان يمكن أن تستمر فترات أطول إذا استمر تغليب عقلية الانتقام والعنف، وبالتسامح تمكَّنت دول مثل الهند من أن تحقق الاستقلال عن الاحتلال البريطاني، وتسلك طريق التنمية والتقدم، وبالتسامح اتحدت كيانات متفرّقة في إطار دولة واحدة يسودها الوئام والسلام والاستقرار والتعاون، كما تؤكد ذلك تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة، وذلك كله يؤكد أن قوة التسامح تفوق بكثير قوة الأسلحة والقدرات العسكرية، وغيرها من مصادر القوة الأخرى. والثانية أن الأشخاص، الذين ينشرون التسامح، ويتمسكون به، ويحرصون على ترسيخه في مجتمعاتهم، يتم تخليدهم في وجدان شعوبهم وذاكرة أوطانهم، بل يتذكرهم العالم كله بفخر واعتزاز، فهؤلاء هم صانعو السلام والاستقرار الحقيقيُّون في دولهم والعالم. أما الحقيقة الثالثة، التي نستخلصها من هذه الأمثلة وغيرها، فهي أنه لا تنمية ولا تقدُّم من دون تسامح، فإذا كان التسامح أساس الأمن والاستقرار، وإذا كان الأمن والتنمية وجهين لعملة واحدة، فكيف يمكن لنا أن نتصور حدوث تنمية في دول ومجتمعات تسودها نزعات العنف والتطرف والكراهية؟
ويزخر التاريخ البشري الحديث بالعديد من الأمثلة لقادة وشخصيات شكلوا أيقونات لنشر قيم التسامح والعَيش المشترك في مجتمعاتهم والعالم، وجعلوا من التسامح «عنصر قوة» و«أساساً صلباً» لبناء مجتمعات متسامحة ومتآلفة، نجحت في أن تشق طريقها نحو النهضة والتقدم، في وقت سقطت فيه مجتمعات أخرى في دوائر مغلقة من العنف والعنف المضاد نتيجة تغليب لغة الانتقام والكراهية وعدم التسامح. وسأكتفي هنا، بطبيعة الحال، بالإشارة إلى عدد محدود من هذه النماذج التي توضّح كيف يمكن لشخص واحد مؤمن بقيمة التسامح أن يغيّر واقع مجتمعه نحو الأفضل، ويرسم له مساراً رائداً في السلام والتنمية والاستقرار.
زايد وتجسيد قيمة التسامح
لقد تعرضتُ في مقالات سابقة لي للدور المهم الذي أدَّاه المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيَّب الله ثراه، في ترسيخ ثقافة التسامح بالمجتمع الإماراتي، ولكن لا يمكن أن نتحدث عن رواد التسامح في المنطقة والعالم من دون أن نشير إلى هذا الزعيم العربي الحكيم، الذي رفع راية التسامح ورسَّخه بصفته ركيزةً أساسيةً لصنع أعظم تجربة وحدوية في التاريخ العربي الحديث، وقاعدةَ ارتكاز لبناء أفضل نموذج تنموي تحاول كثير من دول العالم شرقاً وغرباً الاقتداء به. لقد كان الشيخ زايد، رحمه الله، مجسّداً لقيمة التسامح في كل أقواله وأفعاله، داخل دولة الإمارات العربية المتحدة وخارجها، حتى أصبح يشكل رمزاً وطنياً وخليجياً وعربياً، بل عالمياً، للتسامح، فلا يُذكَر رواد التسامح إلا ويُذكَر زايد الخير، رحمه الله.
مانديلا والإيمان بالتسامح
ومن النماذج المهمة التي يمكن الإشارة إليها الزعيم الجنوب أفريقي الراحل نيلسون مانديلا، الذي ارتبط اسمه بمسيرة طويلة من الكفاح والآلام من أجل تحرير بلاده من نظام الفصل العنصري البغيض، واستطاع من خلال نهجه في التسامح والمصالحة بناء نظام سياسي تعدُّدي مستقر يتسع للجميع في جنوب أفريقيا، على الرغم من الظلم والمعاناة اللَذين تعرض لهما هو والأغلبية السوداء من قبل الأقلية البيضاء التي كانت تحكم البلاد. وأهم ما في شخصية نيلسون مانديلا، التي تناولتُها بشيء من التفصيل في كتابي الصادر عام 2016 بعنوان «بصمات خالدة: شخصيات صنعت التاريخ وأخرى غيَّرت مستقبل أوطانها»، والتي وضعته في سجل عظماء التاريخ البشري، هو إيمانه الذي لم يتزعزع بقيمة التسامح وأهميته في بناء الأوطان، فعلى الرغم من أنه تم سجنه أكثر من 27 عاماً، تعرَّض خلالها لصنوف عدَّة من الظلم والتعذيب، فإنه لم يغلّب نوازع الانتقام من سجَّانيه البيض بعد أن نجح الشعب الجنوب أفريقي في إسقاط نظام الفصل العنصري، وإنما غلَّب نوازع التسامح والعفو، فعفا بعد توليه منصب رئيس البلاد عن الذين تسببوا في تعذيبه ومعاناته، ولم يلجأ إلى استبعاد الأقلية البيضاء التي طبَّقت نظام الفصل العنصري، وإنما عمل على بناء نموذج رائد للتعايش السلمي بين مختلف الأعراق والأجناس في جنوب أفريقيا، وهذا النموذج هو الذي ضمن لهذا البلد الإفريقي التقدم والازدهار، وهو الذي أهَّل نيلسون مانديلا للحصول على جائزة نوبل للسلام عام 1993، وجعل منه رمزاً من رموز التسامح في العالم.
تجربة المهاتما غاندي
وفي الهند تبرز أمامنا تجربة المهاتما غاندي الملهِمة، وهو صاحب منهج «اللاعنف»، ورمز التسامح والتعايش بين البشر بصرف النظر عن انتماءاتهم ودياناتهم. لقد ناضل غاندي أكثر من 50 عاماً من أجل تحقيق استقلال الهند، رافعاً مبدأ «المقاومة السلمية»، ورافضاً مبدأ العنف وإراقة الدماء حتى في مواجهة الاحتلال البريطاني لبلاده. وفي عام 1922 قاد حركة عصيان مدني ضد الاحتلال البريطاني، وكانت هذه الحركة فاعلة للغاية، لكن عندما وصل الغضب الشعبي إلى حد اصطدام بعض الجماهير الهندية بقوات الاحتلال البريطاني، ووقوع أعمال عنف، سارع غاندي إلى إيقاف هذه الحركة، حتى لا تضر بنضاله السلمي ومنهجه القائم على «اللاعنف»، الذي ضمن له في نهاية المطاف تحقيق هدفه الأسمى المتمثل في استقلال الهند عن بريطانيا. كما كان غاندي من المنادين باحترام حقوق جميع الأفراد بمختلف أديانهم وطوائفهم واختلافاتهم العرقية والاثنية، ورفض أي تمييز بينهم، ففي مرحلة الاستقلال ارتفع مؤشر الاضطرابات الدينية في الهند، مع اتجاه باكستان إلى الانفصال عنها، وهو الأمر الذي كان يؤلم غاندي، ويعدُّه كارثة وطنية، فأخذ يدعو إلى نبذ النعرات الدينية والطائفية، وإعادة الوحدة الوطنية بين المسلمين والهنود، لأنه شاهد خلال الفترة التي قضاها في جنوب أفريقيا (1893-1915) كيف أضعفت النزعات العنصرية والطائفية نسيج المجتمع، بل إنه دافع عن حقوق الأقلية المسلمة في الهند، ودعا الأكثرية الهندوسية إلى احترامها، ما تسبَّب في غضب بعض المتطرفين الهندوس الذين اغتاله أحدهم عام 1948، منهياً رحلة زعيم أفنى حياته دفاعاً عن قيم التسامح والسلام.
زعامة بول كاغامي
ومن الأمثلة الحديثة، التي تثير الإعجاب هنا، النموذج الذي قدَّمته رواندا بزعامة بول كاغامي، الزعيم الإفريقي الذي قاد نضال الروانديين للتحرُّر من هيمنة الفكر العنصري الاستعلائي، وإنهاء أسوأ جرائم الإبادة الجماعية في العصر الحديث، رافعاً شعار العفو والعدالة. فقد ارتبطت رواندا في أذهان الجميع بالإبادة الجماعية التي وقعت ضد أقلية التوتسي العرقية من قبل الأغلبية العرقية من الهوتو في أبريل 1994، والتي حصدت أرواح أكثر من مليون شخص خلال 100 يوم فقط، وتركت جروحاً عميقة في نفوس الروانديين لم يكن من المتوقع أن تندمل قبل عشرات السنين، لكن السياسات التي انتهجتها الحكومة الرواندية برئاسة بول كاغامي، بعد هذه الإبادة الجماعية الأكثر وحشيةً في تاريخ البشرية الحديث، كانت حقاً مثيرة للإعجاب، فقد أطلقت الحكومة ما وُصِف بأنه حملة هندسة اجتماعية جريئة، أصبح الروانديون بموجبها يعرفون أنفسهم بهويتهم الوطنية بصفتهم روانديين فحسب، وليس بهويتهم العرقية، وتم تجريم كل ما يشير إلى العنصرية، بل حُرّم على الروانديين نطق كلمتي توتسي وهوتو، لينأوا بأنفسهم عن الاثنية والاستعلاء العرقي البغيض، كما تبنَّت الحكومة نظاماً تقليدياً لتطبيق العدالة يُدعى «جاكاكا»، يسمح للمجتمع بمحاكمة الجناة، وقبول طلب الغفران والعفو، ويلغي عقوبة الإعدام، حتى لا تتعمَّق الجراح والمآسي بإعدام الآلاف من القَتَلة، وكانت الأحكام التي تصدر عن هذه المحاكم تتراوح بين الحكم على بعضهم بخدمة الصالح العام، وعلى بعضهم الآخر بالسجن، بحسب مدى خطورة الجرائم المرتكَبة، وتم إغلاق هذه المحاكم رسمياً في عام 2012 بعد أن نظرت نحو 1.9 مليون قضية، لتطوي رواندا معها صفحة الإبادة الجماعية السوداء الأسوأ في تاريخها، بإعلاء قيم التسامح والعدالة، والتفرُّغ لعملية التنمية الاقتصادية التي حققت فيها نتائج باهرة. لقد أعلى الروانديون، برئاسة بول كاغامي، فضيلة التسامح على عقلية الانتقام، وطَوَوْا صفحة الإبادة بالتسامح الذي طغى على قلوبهم ومعاملاتهم، وكان هذا طريقهم إلى تحقيق النهضة والتقدم، وتقديم نموذج رائع في التسامح والتنمية إلى البشرية.
التسامح قوة
إن هذه الأمثلة التي طرحتها، وغيرها الكثير الذي لا يتسع المقام لذكره هنا، تؤكد حقائق عدَّة مهمة، الأولى أن التسامح قوة لأي مجتمع، تعزّز وحدته وتماسكه وتآلف أبنائه، فبالتسامح خرجت دول مثل جنوب أفريقيا ورواندا من حقب مظلمة ودموية كان يمكن أن تستمر فترات أطول إذا استمر تغليب عقلية الانتقام والعنف، وبالتسامح تمكَّنت دول مثل الهند من أن تحقق الاستقلال عن الاحتلال البريطاني، وتسلك طريق التنمية والتقدم، وبالتسامح اتحدت كيانات متفرّقة في إطار دولة واحدة يسودها الوئام والسلام والاستقرار والتعاون، كما تؤكد ذلك تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة، وذلك كله يؤكد أن قوة التسامح تفوق بكثير قوة الأسلحة والقدرات العسكرية، وغيرها من مصادر القوة الأخرى. والثانية أن الأشخاص، الذين ينشرون التسامح، ويتمسكون به، ويحرصون على ترسيخه في مجتمعاتهم، يتم تخليدهم في وجدان شعوبهم وذاكرة أوطانهم، بل يتذكرهم العالم كله بفخر واعتزاز، فهؤلاء هم صانعو السلام والاستقرار الحقيقيُّون في دولهم والعالم. أما الحقيقة الثالثة، التي نستخلصها من هذه الأمثلة وغيرها، فهي أنه لا تنمية ولا تقدُّم من دون تسامح، فإذا كان التسامح أساس الأمن والاستقرار، وإذا كان الأمن والتنمية وجهين لعملة واحدة، فكيف يمكن لنا أن نتصور حدوث تنمية في دول ومجتمعات تسودها نزعات العنف والتطرف والكراهية؟