كان من المفترض أن تقود وسائل التواصل إلى التواصل، لكن كثيراً من المشاركات تؤكد حالة خوف الجميع من الجميع، الخوف من الحسد والحقد والبغض، واعتبار كل شخصٍ لنفسه أنّه معيار الحكمة، ومركز العالم وكبير البشر. فهذه السيدة تعاني حسد وغيرة كل من تعرف تقريباً، وإذا ما تابعت اللائي تعرفهن تجد الحديث نفسه عن الحسد والتآمر والتربُّص والإضرار العمد.
سوف يصاب الإنسان بالدوار إذا ما حاول أنْ يقرأ شكوك الناس في بعضهم بعضاً، وفقدانهم الثقة في كل من يعرفون.. إلاّ قليلاً.
لا تعدّ هذه الظاهرة التي تشبه وصف الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز «الكل ضدّ الكل» بالظاهرة الجديدة، فلطالما كان الخوف محركاً رئيساً للتاريخ، وكان القلق من الآخر.. أمراً قائماً على امتداد الوجود البشري.
لكن الجديد في وسائل التواصل أنها جعلت ذلك على نطاق غير مسبوق، كما أنها نقلتْ ما كان يُقال في المنازل والشوارع والمقاهي إلى أكبر وسيلة إعلام على مرّ التاريخ، ومنذ خلق الله آدم.. وهي الإنترنت.
في أول عملي بالصحافة.. كان كبار المفكرين يشيرون إلى أنهم كتبوا في هذا الأمر في مؤلفاتهم أو مقالاتهم. والآن يشير كلّ البشر إلى كتاباتهم في كل شيء.. من قاع المحيط إلى سطح المريخ!
في قريتنا كان بعض أقاربي، وبعض أصدقائهم يجلسون في المنازل أو على المصاطب أو قرب المساجد.. ويتحدثون في كل شيء، ومعهم ينتقل جدول الأعمال من أسعار المبيدات في موسم البطاطس إلى حركة الأسهم في بورصة نيويورك، ومن الصراع على نصف متر في أرض زراعية إلى الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن. وكانوا إذا ما انتهى مجلسهم.. نسوا ما دار بينهم، وأصبح ما كان من حديث هو والعدم سواء، ثم يأتون في اليوم التالي ليعودوا إلى حواراتهم القروية والكونيّة من جديد. ومن المثير أن بعضهم كان يقول في اليوم التالي عكس ما كان يقول بالأمس، فلا هو يعتذر عن رأيه السابق، ولا أحد من الحضور يذكّره بما كان، وفي كل يوم يمكن لأحدهم أن يتخذ الموقف الذي يشاء من دون تبرير أو توضيح، أو ربطٍ بما سبق، أو التمهيد لما هو آت.
لم يعد ذلك قائماً اليوم، فالأغلبية الساحقة ممن يتحدثون على وسائل التواصل لا يملكون المعرفة في ما يتحدثون، وهم ينتقلون كقدامى أبناء قريتنا من موضوع إلى آخر، لكنهم لا يملكون بالضرورة حسن النوايا ونقاء السريرة وقوة التسامح.. بل إنهم يتربصون ويكيدون.
إنهم يذمّون جميع الكائنات. لقد جمعوا كل ما في مجرة درب التبانة من الطاقات السلبيّة، وألقوها على شاشات هواتفهم.
ياللهول.. لا يجب أن نستسلم لذلك التيه المخيف، لا يجب أن يرى أحدنا أنّه مركز ذلك الكون، ولا عمل لمجراته العديدة إلاّ متابعة ما يعمل، وما يملك وما ينوي.
عزيزي الإنسان.. لا يجتمع العالم كل صباح من أجل أن ينظر إليك، وينال بحسده منك. أنت لست سوى واحد من مليارات البشر، وستقضي في كوكبنا هذا عقوداً عدة وتغادر.. لا تفسد إقامتك هنا بمحض إرادتك.. أنت لستَ في حرب مع الإنسانية، حربُك مع نفسك.. ليصبح غدك أفضل من يومك.
من السهل أن تعيش من أجل نفسك، ومن المروءة أن تعيش من أجل الآخرين أيضاً.
*كاتب مصري