هذا المقال يأتي امتداداً لموضوع «التوجهات العالمية في 2025: تحولات كبرى وصراعات مستمرة»، حيث نسلط الضوء بشكل أعمق على ظاهرة التفاوت بين الدول في النظام الدولي الجديد. ففي الوقت الذي تتهاوى فيه بعض الدول تحت وطأة الأزمات، تصعد أخرى بقوة، وتفرض نفسها كقوى مؤثرة في رسم مستقبل العالم.
بين الدولة الضعيفة التي تتراجع وتفقد سيادتها، والدولة الصاعدة التي تكتسب وزناً سياسياً واقتصادياً متزايداً، يتشكل مشهد عالمي جديد يقوم على مفاهيم مغايرة للقوة والتأثير.
منذ نهاية الحرب الباردة، لم يشهد العالم مثل هذا الكم الهائل من التحولات الجذرية التي تعيد رسم موازين القوة بين الدول كما يحدث في عام 2025. تعيش الأنظمة السياسية اليوم حالة سيولة غير مسبوقة، حيث تتداخل ملامح الدولة القوية والدولة الضعيفة بشكل معقد، وتزداد صعوبة تصنيف الدول ضمن الأطر التقليدية التي اعتاد عليها النظام الدولي خلال العقود الماضية. إن المشهد العالمي الراهن يعكس واقعاً فيه دول ضعيفة تتهاوى بفعل الأزمات الداخلية والضغوط الخارجية، بينما تظهر دول صاعدة تنحت طريقها بقوة نحو مراكز القرار والتأثير، مما يعيد تشكيل معادلة القوة في القرن الحادي والعشرين.
في هذا السياق، تبرز الدولة الضعيفة باعتبارها كياناً سياسياً يعاني من مشكلات بنيوية داخلية، أهمها فقدان شرعية الحكم، أو ضعف مؤسسات الدولة، أو غياب التوافق الوطني، بالإضافة إلى عجزها عن بسط سيطرتها على كامل أراضيها أو توفير الخدمات الأساسية لمواطنيها. وتزداد هشاشة هذه الدول بفعل تدخلات القوى الخارجية أو الحروب بالوكالة، مما يحولها إلى ساحة صراع تتنازعها مصالح القوى الإقليمية والدولية.
ونجد في هذا الإطار دولاً مثل لبنان وسوريا وليبيا أمثلة صارخة على هذا النموذج، حيث تواجه هذه الدول أزمات اقتصادية طاحنة، وانقسامات اجتماعية حادة، وتراجعاً في حضور الدولة المركزية، ما يجعلها عرضة للانهيار التام أو استمرار حالة «الدولة الفاشلة».
على الجانب الآخر، تبرز الدولة الصاعدة كنموذج يتحدى الأوضاع الاقتصادية والسياسية السائدة، ويحقق قفزات نوعية في مؤشرات القوة الشاملة، سواء على مستوى الاقتصاد أو الابتكار التكنولوجي أو النفوذ السياسي والعسكري. ولعل الهند والبرازيل وإندونيسيا تعد من أهم النماذج التي تلفت الأنظار في عام 2025، حيث تنجح هذه الدول في تعزيز حضورها في سلاسل الإنتاج العالمية، وتطوير صناعات استراتيجية، والاستثمار في البنية التحتية الرقمية، مما يمنحها القدرة على التأثير في النظام الدولي، والمشاركة في صناعة القرار العالمي من خلال تكتلات جديدة، مثل مجموعة «بريكس بلس» وتحالفات الجنوب العالمي.
ومع استمرار التحديات البيئية، وارتفاع وتيرة الأزمات المناخية، تصبح القدرة على تحقيق الأمن الغذائي، وإدارة الموارد الطبيعية، وتبني سياسات طاقة مستدامة من أهم المعايير التي تميز الدولة الصاعدة عن غيرها. فالدول التي تتمكن من الاستثمار في التحول الأخضر وتطوير تقنيات الطاقة المتجددة، مثل الصين والإمارات العربية المتحدة، تفتح لنفسها آفاقاً جديدة في الاقتصاد العالمي، وتتحول إلى نماذج إقليمية ذات جاذبية سياسية واقتصادية.
غير أن الفارق الأهم بين الدول الضعيفة والصاعدة في 2025 يكمن في قدرة الدولة على التكيف مع التغيرات التكنولوجية السريعة، وإعادة بناء العقد الاجتماعي بما يضمن استقرارها الداخلي. فالدولة التي تفشل في احتواء الأزمات الاقتصادية، أو في بناء نظم تعليمية قادرة على إعداد الأجيال القادمة لعصر الذكاء الاصطناعي، تجد نفسها في موقف ضعف بنيوي طويل الأمد. أما الدول التي تستثمر في رأس المال البشري، وتحفز الابتكار، وتبني بيئة سياسية تتسم بالمرونة والاستجابة السريعة، فهي المؤهلة للصعود وتحقيق النفوذ.
وفي خضم هذا المشهد، تتغير ملامح مفهوم السيادة التقليدية، حيث لم تعد الدولة القوية بالضرورة تلك التي تمتلك تفوقاً عسكرياً صلباً، بل أصبحت الدولة القادرة على إدارة البيانات الضخمة، وحماية فضائها السيبراني، والتحكم في شبكات المعرفة والتكنولوجيا، هي صاحبة الكلمة العليا في توازنات القوة العالمية.
وفي المنطقة العربية، تتضح هذه الفروقات بجلاء. فبينما تعاني بعض الدول من أزمات حادة تجعلها في مصاف الدول الضعيفة، نجد دولاً أخرى، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر، تواصل تقدمها بثبات، معتمدة على رؤية استراتيجية واضحة، واستثمارات ضخمة في مجالات الطاقة المتجددة، والتعليم، والبنية التحتية الرقمية، مما يجعلها مؤهلة للعب أدوار إقليمية ودولية متقدمة خلال العقد القادم.
ختاماً، يبدو المشهد الدولي في 2025 محكوماً بصراع بين نموذجين: الدولة الضعيفة التي تتآكل قدراتها وتفقد السيطرة على قرارها السيادي، والدولة الصاعدة التي تنمو بقوة، وتصوغ ملامح جديدة لعالم متعدد الأقطاب، حيث تتقاسم القوى الصاعدة مراكز التأثير، وتعيد تشكيل النظام الدولي وفق مصالحها واستراتيجياتها الخاصة. وبين هذين النموذجين، تظل الفرص متاحة، والتحديات قائمة، في انتظار من يملك الرؤية والقدرة على الفعل الاستراتيجي.
*لواء ركن طيار متقاعد