قد يندهش القارئ من هذا الربط بين الرجلين، وأستسمحه في أن يتقبل هذه المقارنة لأكثر من اعتبار، وأول الاعتبارات، أن جورباتشوف الذي وصل إلى قمة السلطة في الاتحاد السوفييتي في 1985 كان على رأس قوة عظمى، تماماً كما أن ترامب الآن يرأس القوة العظمى الأميركية، وثاني الاعتبارات، أن كلا الرجلين أتى بأفكار غير مألوفة أثارت في التحليل الأخير مشكلات مع الحلفاء، على أساس أن كلتا الدولتين كانتا تقودان معسكرين يضمان حلفاء لهما، وإن اختلفت التفاصيل، فعلى عكس كل السياسات السوفييتية السابقة على جورباتشوف، والتي كان أساسها الصراع بين المعسكرين الرأسمالي الغربي والاشتراكي الشرقي دشن جورباتشوف مبدأ «عالم واحد أو لا عالم»، ومعناه في التحليل الأخير أنه إما أن يواجه العالم متحداً، وليس منقسماً إلى معسكرين متصارعين، التحديات المشتركة التي تواجه الجميع، كخطر الحرب النووية وتغير المناخ وغيرهما، وإما أن يكون الفناء مصير الجميع، وزاد جورباتشوف على ذلك مبدأ «توازن المصالح لا توازن القوى»، ومعناه أن الإدارة المثلى للصراع الدولي عامة وبين المعسكرين خاصة لن تكون بسباقات التسلح، فكلما أعطيت حليفك سلاحاً أعطى خصمك حليفه سلاحاً أمضى منه، وهكذا بلا نهاية، بما يجعل النهج الأعقل والأفضل هو البحث عن المصالح المشروعة لأطراف الصراع ومحاولة تلبيتها، وقد أتبع جورباتشوف القول بالفعل فقدم تنازلات غير مسبوقة في مباحثات الحد من الأسلحة النووية أربكت الطرف الأميركي، وأمكن بسببها تحقيق إنجازات محددة في هذا الصدد، غير أن نهج جورباتشوف بصفة عامة أربك حلفاءه في أوروبا الشرقية فتساقطوا واحداً بعد الآخر، وتبدل وجه المعسكر الاشتراكي على نحو سريع، وانتهى الحال بتفكك الاتحاد السوفييتي نفسه، وتراجع المكانة الدولية لروسيا باعتبارها وريثته الأهم، حتى وصل بوتين لسدة السلطة في مطلع القرن، وبدأ مسيرة استعادة مكانتها الدولية.
وعلى الناحية الأخرى، رفع ترامب منذ حملته الانتخابية هدف سعيه لإنهاء الصراعات المشتعلة وعلى رأسها الحرب الدائرة في أوكرانيا منذ فبراير 2022، وكذلك الأمر بالنسبة للمواجهة الدائرة في الشرق الأوسط، والتي وصلت ذروة غير مسبوقة منذ 7 أكتوبر 2023، بل إن ترامب ألح غير مرة على أنه لو كان في السلطة لما نشبت هذه الحروب، وقد يكون هذا صحيحاً بصفة خاصة بالنسبة للحرب الأوكرانية، لأن الاستفزازات الغربية لروسيا رغم استعداد بوتين لقبول تسويات متوازنة كانت سبباً رئيساً للعملية العسكرية الروسية الروسية، لكن الوضع يختلف بالتأكيد بالنسبة للصراع العربي- الإسرائيلي بالنظر لانحياز ترامب الصارخ لإسرائيل.
 ويقوم ترامب الآن بجهود حقيقية لإنهاء الحرب في أوكرانيا أدت لتداعيات خطيرة على التحالف الغربي، تماماً كما أدت سياسات جورباتشوف لتداعيات خطيرة على التحالف الاشتراكي، وكما رفع جورباتشوف شعار البروسترويكا (إعادة البناء) يرفع ترامب شعار إعادة أميركا عظيمة ثانيةً، مع الفارق بطبيعة الحال، لأن الاتحاد السوفييتي كان في حال سيئة عندما تولى جورباتشوف الحكم لا يمكن مقارنتها بحال الولايات المتحدة، وكما واجه جورباتشوف تحديات داخلية، فإن ترامب يواجه معارضة متزايدة نتيجة سياساته الرامية لتقليص الحكومة الفيدرالية وغيرها، فهل تفشل السياسات غير المألوفة لترامب، كما فشلت سياسات جورباتشوف؟ مازال الوقت مبكراً بالتأكيد للتوصل لحكم ذي صدقية، لكن الأمر يستحق عناء التفكير.