إعادة بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية ليست ترفاً فكرياً أو خياراً نخبوياً، بل ضرورة شرعية واستراتيجية تفرضها مقاصد الشريعة الإسلامية في تحقيق الاجتماع والتآلف، وصيانة الأمة من التفرق والتنازع.

لم تكن المذاهب الفقهية يوماً عاملَ تفتيت، بل شكّلت إطاراً علمياً اجتهادياً يعكس مرونة الشريعة وقدرتها على استيعاب التنوع الفقهي. لكن مع مرور الزمن، استُغلّت هذه الاختلافات لأغراض سياسية وطائفية، مما أدى إلى تصعيد النزاعات، بدلاً من إدارتها وفق الضوابط الشرعية. هذا الواقع يحتم على الأمة تجاوز الجدل النظري حول التقريب بين المذاهب، إلى مرحلة جديدة من قبول التنوع الفقهي، بحيث يصبح هذا التعدد عامل تكامل، لا سبباً للتمزق. وفي هذا السياق، يأتي المؤتمر الثاني لبناء الجسور بين المذاهب الإسلامية في مكة المكرمة، برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، ليُجسِّد تحولًا جوهرياً من التقريب إلى تفعيل المشتركات، ومن الحوار إلى البناء المؤسسي لوحدة إسلامية فاعلة.

لا يمكن أن تظل جهود التقريب مجرد لقاءات أكاديمية، بل يجب أن تتحول إلى رؤية شاملة تعيد صياغة العلاقة بين المسلمين وفق أطر أصولية ومنهجية واضحة، وهو ما يسعى إليه هذا المؤتمر من خلال إعادة ضبط العلاقة بين المذاهب الإسلامية وفق ضوابط شرعية تحكمها قواعد الاجتهاد والمقاصد الكلية للشريعة. لقد أثبت التاريخ أن الفقه الإسلامي لم يكن يوماً فكراً أحادي الاتجاه، بل تأسس على مبدأ التعدد في الاجتهاد، ما أتاح للأمة مساحةً واسعةً من التنوع داخل وحدة العقيدة. لكن الإشكالية الكبرى ليست في تعدد المدارس الفقهية، بل في كيفية إدارتها داخل الأمة.

عندما كانت المذاهب تُدار بمنهجية أصولية، كانت عامل إثراء علمياً، وعندما تم استغلالها في الصراعات السياسية، تحولت إلى سبب للانقسام والاحتراب الداخلي. إن إدراك الفرق بين الاختلاف الفقهي المشروع والتنازع المذهبي المذموم هو المدخل الصحيح لإعادة التوازن إلى العلاقة بين المذاهب الإسلامية، وإحياء قاعدة مراعاة الخلاف، التي تمثل رؤية أصولية متينة، أكد عليها المالكية وغيرهم، في إدارة الاختلاف داخل الإطار الشرعي، دون أن يتحول إلى أداة للتمزق. قاعدة مراعاة الخلاف تقوم على أن الخلاف الفقهي إذا كان له مستند شرعي معتبر، فهو داخل في دائرة السعة الشرعية، ويجب التعامل معه بوصفه اجتهاداً معتبراً لا مدخلاً للتنازع أو الإقصاء.

لا يمكن تصور وحدة إسلامية تقوم على إلغاء الاختلاف الفقهي، لأن ذلك يتناقض مع طبيعة الاجتهاد الإسلامي، لكن يمكن تحقيق وحدة تقوم على استثمار المشترك، وإدارة المختلف فيه وفق رؤية علمية متوازنة. وفي هذا السياق، يقول الإمام القرافي المالكي، في كتابه «الفروق»، «إن الخلاف الفقهي إذا قوي دليله، فإن مراعاته أولى من إلغائه، لأن مراعاة الخلاف تؤدي إلى الجمع بين الأدلة الشرعية، بينما إلغاؤه يؤدي إلى ترجيح أحدها دون دليل قطعي». وهذه الرؤية تعزز إمكانية تحقيق وحدة إسلامية قائمة على الاعتراف بالتنوع الفقهي، لا على فرض رؤية واحدة على الجميع. وجاءت وثيقة مكة في المؤتمر الأول لتضع أساساً متيناً لهذا المشروع، حيث أكدت أن الخلاف الفقهي ينبغي أن يظل في إطاره العلمي، وألا يتحول إلى نزاع عقدي أو سياسي.

لكن نجاح هذه الوثيقة مرهون بترجمتها إلى برامج تنفيذية، بحيث تتحول إلى إطار عملي شامل ينظم العلاقة بين المذاهب وفق منهجية شرعية دقيقة. ومن هنا، تبدو الحاجة إلى وضع «مانيفستو للمذاهب الإسلامية»، يحدد القواعد الأساسية لإدارة التنوع الفقهي، ويفصل بين الاختلاف المشروع والممارسات التي تتجاوزه إلى إثارة الفتن داخل المجتمعات الإسلامية. لم يعد التقريب بين المذاهب اليوم مجرد قضية فقهية أو فكرية، بل أصبح تحدياً حضارياً يستوجب رؤيةً متكاملة تتجاوز النقاشات التقليدية إلى إعادة تشكيل الوعي الإسلامي العام، بحيث تتحول ثقافة التعدد الفقهي إلى جزء من هوية المجتمعات الإسلامية.

وهذا يستوجب إصلاح المناهج التعليمية، وإعادة بناء الخطاب الديني، وتطوير الإعلام الوطني ليكون أداة لتعزيز ثقافة التقارب، لا ساحةً للاستقطابات المذهبية. كما يجب أن تنعكس هذه الرؤية في المؤسسات الدينية، بحيث تعكس التعدد الفقهي داخل الأمة، بدلاً من أن تتحول إلى أدوات لنشر الرؤى الأحادية. إن مبادرة الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى في إطلاق الجولة الثانية من مشروع التقريب بين المذاهب الإسلامية، تأتي في هذا الإطار، حيث تسعى إلى تجاوز الحوار التقليدي، وصولاً إلى إيجاد حلول عملية لترسيخ ثقافة القبول بالتنوع الفقهي. هذه المبادرة تركز على تصحيح المفاهيم المغلوطة حول المذاهب المختلفة، وإعادة تشكيل العقلية الإسلامية بحيث تتجاوز منطق الصراع إلى منطق التكامل، وتعزيز فقه الموازنات بحيث يتم تقديم المصلحة العامة للأمة على المصالح الفئوية والطائفية الضيقة.

ووفق رؤية العيسى، فإن التحدي ليس في إثبات وجود نقاط اتفاق بين المذاهب الإسلامية، فهذا أمر معلوم، بل التحدي الحقيقي هو كيف يمكن تحويل هذه المشتركات إلى أدوات فاعلة تخدم المجتمعات الإسلامية.

ولهذا، فالرؤية المطروحة تركز على بناء برامج تعليمية وإعلامية ودينية توحّد الصف الإسلامي، من خلال التركيز على المشتركات الفقهية الكبرى، وإيجاد آليات لاحتواء الاختلاف الفقهي بدلاً من تأجيجه. تحقيق مؤتلف إسلامي فاعل ليس مجرد شعار، بل مسؤولية حضارية تتطلب إرادة سياسية وفكرية واضحة، وإصلاحاً شاملًا للمؤسسات الدينية والتعليمية والإعلامية. يجب أن تتضمن هذه الرؤية إصلاح المناهج التعليمية بحيث تكرس ثقافة التعدد الفقهي، ومنع تسرب النزعة الطائفية إلى الخطاب الديني، وتطوير الإعلام ليكون أداة لنشر ثقافة التقريب، بدلاً من أن يكون منصة للجدل المذهبي العقيم، وإعادة هيكلة مؤسسات الفتوى بحيث تعكس واقع الأمة الإسلامية بجميع مذاهبها. لا يمكن الحديث عن وحدة إسلامية حقيقية إذا بقيت الأمة أسيرةَ صراعات مذهبية مصطنعة، تعيق مسيرتها نحو تحقيق نهضتها الحضارية.

إن انعقاد هذا المؤتمر في مكة المكرمة، وفي شهر رمضان المبارك، هو رسالة واضحة بأن الأمة الإسلامية قادرة على تجاوز خلافاتها إذا توفرت الإرادة الحقيقية لذلك. لقد شهد التاريخ الإسلامي مراحل ازدهرت فيها الأمة حينما تمكن المسلمون من استثمار تنوعهم الفقهي والفكري في البناء لا في الهدم، والتحدي اليوم هو إعادة إحياء هذا النموذج الحضاري، بحيث يصبح التعدد الفقهي عاملاً من عوامل قوة الأمة، لا سبباً في ضعفها وتشرذمها. والطريق نحو قيام مؤتلف إسلامي فاعل يبدأ بإرادة واعية تدرك أن الاختلاف ليس نقيضاً للوحدة، بل هو جزء من ديناميكية الاجتهاد الإسلامي، إذا تم ضبطه بقواعده الشرعية الحاكمة.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة