مرت الحضارة البشرية بالعديد من المنعطفات التاريخية التي أحدثت تغيرات جذرية في التاريخ الإنساني ونحن في وقتنا الحاضر نمر بانعطافة كبيرة من تلك الانعطافات، ونتحول من العصور الصناعية إلى العصور الرقمية، وندخل في عصر الذكاء الاصطناعي الذي يتغلغل داخل نسيج الحضارة الإنسانية بصورة عميقة، ويحدث تغيرات جذرية في كافة المجالات الاجتماعية والإبداعية، ومن أكثر المجالات التي يحدث فيها هذا التغيير سوق العمل والمهن المختلفة داخل المجتمعات الإنسانية.
تشير العديد من الدراسات إلى تأثير الذكاء الاصطناعي على العديد من الوظائف، حيث سيحل محل بعضها، وقد يكمل بعضها مما يؤدي إلى تخفيض عدد العمالة اللازمة لها. حتماً سيؤدي فقد أناس لوظائفهم إلى تهديد السلم المجتمعي فهو بمثابة كرة الثلج التي بدأت في التدحرج لابد أن ننتبه ونفتتها قبل أن تكبر لنحمي العالم والحضارة البشرية من تجربة قد تطيح بالسلم المجتمعي ليس في دولة واحدة، بل في العالم كله.
لذلك النظر باهتمام لتداعيات الذكاء الاصطناعي وتطوره إحدى أهم قضايا رؤية المستقبل. الجميع لا يتحدث إلا عن هذا التطور المذهل، وكيف يمكن أن يكون تحولاً إيجابياً في المفردات اليومية لحياة الأفراد، دون أن نتحدث بالقدر نفسه عن التداعيات السلبية.
الخطوة الأولى في مواجهة أي تحدٍ تبدأ من الوعي، فهو الأساس الذي عليه نبني نجاحاتنا، فالوعي هو العمود الفقري لمواجهة التحديات. وفقاً لتقارير البنك الدولي الصادر في أكتوبر 2024، فإن حوالي 8.5% من سكان العالم يعيشون تحت خط الفقر المدقع وأن 3.5 مليار شخص يعيشون على دخل يومي لا يتعدى سبع دولارات وهو خط الفقر، كما تشير تقارير منظمة اليونسكو إلى أن هناك ما يقرب من المليار إنسان يفتقرون إلى مهارة القراءة والكتابة الأساسية. كيف يمكن وسط كل هذه الأرقام المفزعة أن نبني وعياً قادراً على استيعاب تداعيات الذكاء الاصطناعي وتطوره المتسارع بشكل مستمر ومواجهة مثلث التحدي الذي يهدد مستقبل البشرية (الفقر، الجهل والبطالة)؟
من هذه الزاوية أوجه حديثي إلى العالم وأركز على عمل مؤسسات المجتمع المدني حول العالم، في ظل دعم الأمم المتحدة الدول التي تتبنى النهج الإنساني في رؤيتها لمستقبل البشرية، وعلى رأسها تأتي دولة الإمارات العربية المتحدة.
بداية مواجهة الجانب السلبي للذكاء الاصطناعي على سوق العمل تكمن في مواجهة المثلث وكسر أضلاعه، حتى يمكن للوعي أن ينطلق ويتعلم ويتماهى مع تطور الذكاء الاصطناعي حول العالم، ويتعلم الإنسان المهارات الجديدة التي تساعده على مواكبة التطور وتحويل التحديات إلى طاقة إيجابية تغير من حياة الفرد، وبالتالي تغير من حياة المجتمع، وتحافظ على السلم المجتمعي حول العالم.ولتحقيق ذلك فإنني أدعو إلى إنشاء (المنتدى الدولي لمؤسسات المجتمع المدني من أجل مواجهة تحديات المستقبل) ككيان تابع للأمم المتحدة يضم تحت مظلته جميع مؤسسات المجتمع المدني حول العالم بهدف توفير منصة تعاون مشترك وتنسيق لمواجهة التحديات المستقبلية لتوسع الذكاء الاصطناعي والتقاطع مع جهود مقاومة مثلث (الفقر، الجهل والبطالة) من أجل تحسين الوعي والحفاظ على السلم المجتمعي.
إن تبني هذه الفكرة من قبل الأمم المتحدة سيكون خطوة استراتيجية مهمة نحو تكامل الجهود العالمية لتنمية وتعظيم الجانب الإيجابي من الذكاء الاصطناعي وتحسين مهارات التعامل معه وأيضاً مواجهة تحديات الذكاء الاصطناعي. 
ولا يسعني إلا أن أشير إلى جهود دولة الإمارات العربية المتحدة وقيادتها الرشيدة حيث قدمت نموذجاً للعالم في ربط سوق العمل مع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي ومواجهة الجانب السلبي، حيث أطلقت الدولة استراتيجية «الإمارات للذكاء الاصطناعي»، التي ركزت فيها على تبني تقنيات المستقبل للذكاء الاصطناعي في خدمة المجتمع وتقوية السلم المجتمعي، فحرصت على ربطه مع سوق العمل وتطوير المهارات الرقمية والتقنيات للعاملين، وتنمية تلك المهارات عند الشباب، وتنشئة الأجيال الجديدة عليها واستيعاب التحولات في الوظائف المستقبلية مع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي.. كل ذلك معتمدة على تعاون وثيق ما بين المؤسسات الحكومية والتعليمية وجمعيات النفع العام في بناء وعي قادر على استيعاب وفهم تلك التحولات.
*باحثة إماراتية في الأمن الاجتماعي والثقافي، أستاذ زائر بكليات التقنية العليا للطالبات، أستاذ زائر بجامعة الإمارات العربية المتحدة.