لم تسلم الحرب الدائرة في أوكرانيا من المبادرات والمطالبات المتلاحقة للرئيس دونالد ترامب، والحقيقة أن هذه الحرب كانت من أوائل القضايا التي خصها باهتمامه منذ حملته الانتخابية، فتحدث عن أنه قادر على إنهائها بمجرد فوزه بالرئاسة، وأنه لو كان رئيساً لما نشبت أصلاً، ومع سيل المواقف التي اتخذها ترامب بمجرد فوزه كان منطقياً أن يكون للحرب في أوكرانيا نصيب منها.
وفي الآونة الأخيرة بدأت معالم التحرك الأميركي بخصوص إنهاء الحرب تتضح، وكان أهم هذه المعالم في غير مصلحة أوكرانيا، إذ أصبح واضحاً أنه لا مانع لدى ترامب من عدم العودة لحدود ما قبل2014 (تاريخ استعادة روسيا لشبه جزيرة القرم)، وسوف ينسحب هذا منطقياً على المناطق التي سيطرت عليها روسيا منذ عمليتها بأوكرانيا في فبراير2022، كذلك اعتبر ترامب أن انضمام أوكرانيا لحلف الأطلنطي ليس عملياً، وهكذا انتهى نموذج الدعم الأميركي غير المحدود لأوكرانيا الذي صبغ رئاسة بايدن، وبطبيعة الحال ستحصل أوكرانيا على ضمانات لأمنها، لكن هذا لا يلغي مخاطر التحول في الموقف الأميركي عليها، وهي مخاطر امتدت لمعادنها الثمينة التي يسود الغموض المطالبة الأميركية بالحصول عليها، ويبدو أحياناً، وكأن ترامب يريد الحصول عليها، وكأنها تعويض عن المساعدات الأميركية السخية لأوكرانيا في عهد بايدن. وفي مواجهة هذه المخاطر كان لابد من رد فعل من الرئيس الأوكراني، وكان أهم معالم رد الفعل هذا مطالبته في مؤتمر ميونيخ الأخير بتكوين جيش أوروبي، في إشارة إلى أن الدرع الأميركي للأمن الأوروبي لم يعد قائماً، وبالتالي لابد من البحث عن بديل ليس هناك أفضل من أن يكون بديلاً أوروبياً، على أساس أن أوروبا هي الأكثر تأثراً بالحرب في أوكرانيا، سواء من منظور التأثير الأمني المباشر، أو من منظور إمدادات الطاقة.
ففي كلمته أمام المؤتمر يوم السبت الماضي حض زيلينسكي الدول الأوروبية على التحرك ضد روسيا، والعمل على تجنب إبرام الأميركيين اتفاقاً معها من وراء ظهر كييف وأوروبا، وقال إن الوقت قد حان لإنشاء القوات المسلحة الأوروبية.
والحقيقة أن قصة الجيش الأوروبي أو البديل الدفاعي الأوروبي المستقل فكرة قديمة بدأت مع التفكير في التكامل الأوروبي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وبينما نجحت هذه الجهود في المجال الاقتصادي، كما ظهر في اتفاقية روما والخطوات التي تلتها على طريق التكامل الأوروبي حتى وصل إلى ما وصل إليه الآن فإن جهود التكامل في المجالين العسكري والسياسي قد تعثرت، ويرجع هذا لسببين، أحدهما خاص بالواقع الأوروبي، والثاني يتعلق بالرقم الأميركي في معادلة الأمن الأوروبي. أما الواقع الأوروبي، فيشير إلى غياب الإجماع على المضي قدماً في مجالي التكامل العسكري والسياسي، ويعود هذا بطبيعة الحال إلى الرغبة في عدم المساس بالسيادة الوطنية على القرارات المتصلة بأمن الدول الأوروبية، وكذلك رغبة بعض هذه الدول في عدم إغضاب الولايات المتحدة على أساس أنها حريصة على أن تكون الفاعل الأساسي في معادلة الأمن الأوروبي، ومن الصعوبة بمكان إنْ لم يكن من المستحيل مواجهة هاتين العقبتين في الأمد القصير، وربما حتى في الأمد المتوسط، وبالتالي، فإن رهان زيلينسكي على جيش أوروبي يبدو رهاناً خاسراً.
*أستاذ العلوم السياسية - جامعة القاهرة