في ظل التحديات الفكرية والتحولات العميقة التي تواجه العالم الإسلامي اليوم، تبرز قضية ضبط عملية الإفتاء كضرورة شرعية وحضارية، وليس فقط كحاجة وقتية. ومن خلال الندوة الدولية التي حملت عنوان «الفتوى وتحقيق الأمن الفكري»، والتي نظمتها الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء بالتعاون مع دار الإفتاء المصرية، يومي 15 و16 ديسمبر الجاري، تم تسليط الضوء على المخاطر الناتجة عن انتشار الفتاوى العشوائية وتوظيفها في تعزيز الغلو والتطرف. هذه التحديات تجعل إعادة تنظيم الإفتاء خطوة أساسية في سياق حماية المجتمعات الإسلامية من الفوضى الفكرية، وتوجيهها نحو الوحدة والاستقرار.
الفتوى ليست مجرد نص فقهي يُقدَّم لمعالجة قضايا فردية، بل هي مسؤولية تتجاوز البعد الفردي لتلمس البعدين الفكري والاجتماعي. وفي عالم يتزايد فيه الاعتماد على المنصات الرقمية، ظهرت جماعات تتخذ من الفتوى وسيلة لترويج أفكارها المتطرفة. وقد أدى انتشار هذه الفتاوى، دون ضوابط أو رقابة علمية، إلى تشويه صورة الإسلام وإثارة الانقسامات بين المسلمين. ومن هنا جاءت أهمية هذه الندوة الدولية كمنبر علمي وفكري لإعادة تأطير مفهوم الإفتاء، بما يخدم الأمن الفكري ويعيد إليه دوره الأصيل.
والأمن الفكري هو أحد المفاهيم المركزية التي اهتمت بها أعمال هذه الندوة، إذ يُعتبر ركيزة أساسية لاستقرار المجتمعات الإسلامية. ويهدف هذا المفهوم إلى صيانة العقول من الانحرافات الفكرية التي تؤدي إلى التطرف والغلو، وهو يوجه الأفراد نحو قيم التسامح والاعتدال التي يشدد عليها الإسلام. وتأتي الفتوى الرشيدة، في هذا السياق، كأداة فعالة لتحقيق هذه الغاية، حيث توفر رؤيةً شرعية متوازنة تجمع بين متطلبات النص الشرعي واحتياجات الواقع المتغير. لكن تحقيق هذا الهدف يتطلب ضبطَ عملية الإفتاء وحصرها في المؤسسات المؤهلة والعلماء الموثوق بهم، لضمان عدم استغلال الدين في تحقيق أجندات ضيقة.
وفي هذا الإطار، أسفرت أعمال الندوة الدولية عن إطلاق الميثاق العالمي للفتوى، الذي يُعد خطوةً مفصلية نحو تنظيم عملية الإفتاء. هذا الميثاق ليس مجرد وثيقة نظرية، بل هو إطار عملي يضع أسساً علمية وأخلاقية واضحة لضمان أن تكون الفتوى مسؤولة ومستندة إلى أصول شرعية راسخة وبعيدة عن التوظيف السياسي أو الأيديولوجي. ومن خلال هذا الميثاق، يتم تقديم الفتوى كوسيلة لتعزيز الأمن الفكري، مع التأكيد على دورها في بناء الوحدة الفكرية بين المسلمين.
الميثاق يركز على استخدام التكنولوجيا الحديثة في تسهيل الوصول إلى الفتاوى الشرعية الصحيحة من خلال منصات إلكترونية موثوقة، مما يساعد على مواجهة الفتاوى العشوائية التي اجتاحت وسائل التواصل الاجتماعي. كما يدعو إلى تعزيز التعاون بين المؤسسات الإفتائية في العالم الإسلامي لتوحيد الجهود وتبادل الخبرات لمواجهة التحديات الفكرية التي تواجه الأمة. وبالإضافة إلى ذلك، يسلط الميثاق الضوء على أهمية التركيز على المشتركات بين المذاهب الإسلامية والعمل على نبذ الخلافات التي تؤدي إلى التفرقة.
إن هذا الميثاق يمثل رؤية استراتيجية لضبط عملية الإفتاء وتحقيق الأمن الفكري، لكن تطبيقه يعتمد على مدى التزام المؤسسات الإفتائية والعلماء بتحويل هذه الرؤية إلى واقع ملموس.
ويبقى السؤال الجوهري: هل نحن مستعدون لاستثمار هذه الخطوة التاريخية في بناء مستقبل فكري آمن ومستقر؟ وهل يمكن أن يشكل الميثاق قاعدة عمل جماعية تتجاوز المصالح الضيقة نحو تحقيق الوحدة الفكرية للأمة الإسلامية؟ الإجابة عن هذه التساؤلات ستحدد مدى نجاح هذا المشروع في تحقيق أهدافه السامية.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة