يتلقف الإنسان من مختلف المحفزات الموجودة في البيئة المحيطة به أشكالاً وأنماطاً متنوعة من الإلهام التي تساعده على بناء تصوراته، وتشذيب منظومته الفكرية وتكوين معرفته المستمرة، فكيف يمكن لمحدودية بصيرته أن تضم براحة الواقع؟
لعل الفنان أو الفيلسوف أو الكاتب.. يجد في الطبيعة ملاذه، حيث تكفيه دقائق معدودة من الإمعان والتفكر في منظر الغروب - على سبيل المثال- لتكوين جدولة منظمة هي مواضيع يود أن يتطرق إليها، وأفكار جديدة لم يلمحها من نظرة إلى ذات المشهد سابقاً. ولدى ذات الفئة البشرية التي تحمل حساً مرهفاً، نجد أن الإبحار في التحليلات الدلالية والتعبيرات الفنية، والمشاهد المجازية يكفي لتكوين إبداعات جديدة وتوجهات معرفية خلاقة.
لكن الانتقال من هذا التخصيص إلى تعميم يضم بين طياته عامة الناس، ومن فيهم من مثقفين ومفكرين وباحثين وطلبة أكاديميين، وعقول يانعة، يجعلنا نطرح تساؤلات تتجاوز الحس الفني والأدبي، ساعية إلى فهم صورة تكوين الإلهام المعرفي لدى الأفراد في هذا العصر متعدد الإملاءات ومتشعب الأدوات، خاصة في ظل التطور غير المعهود للظروف السياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والتقنية، إذ تمتاز بحركة تفاعلية نشطة ومتسارعة، تضع كل الإملاءات في كفة، وأدوات الذكاء الاصطناعي كافة في كفة أخرى.
ولعل المبرر لذلك يعود إلى المستوى غير المتوقع من التطور في هذا المجال الذي بات ينافس الكوادر البشرية في مختلف المجالات والقطاعات، ما يوجه أنظارنا نحو التساؤل حول طبيعة المعرفة والصورة الجديدة لها ضمن هذا السياق، حيث عملت أدوات الذكاء الاصطناعي على تغيير وسائل تحصيل المعرفة الإنسانية التي كانت ترتكز على عمليات متعددة مثل الفهم والتحليل والتجربة وتجميع الملاحظات.. وغيرها، بينما باتت ترتكز في عصر الذكاء الاصطناعي على قواعد البيانات والخوارزميات التي تعد «الآمر الناهي» في اتخاذ القرارات ضمن لعبة الأسئلة المعرفية، وبالتالي فإن أدوات الذكاء الاصطناعي تشكل تحدياً فيما يتعلق بالوعي الإنساني. ومن ناحية أخرى، فإن التكنولوجيا المدهشة ساعدت في توفير سلة واحدة جامعة لكمٍ هائل من البيانات التي تميزت في تصنيفها واستخراج المناسب منها بحسب الموضوع، إلا أنها في الوقت نفسه أوجدت تحدياً معرفياً. وسيفهم مفاد ذلك كل من له ذراع أو باع تخصصي في المجال البحثي والأكاديمي، وكذلك المطلع على المواضيع المتخصصة في إثراء وإغناء الثقافة الإنسانية، حيث إن تسهيل عملية تجميع المعلومات والاستغناء عن مرحلة «عناء البحث»، كل ذلك وفر وقتاً وجهداً كبيرين، إلا أنه أوجد عقبةً أمام المهارات المتعلقة بالتفكير النقدي، حيث إن تفويت مرحلة جمع المعلومات بالاعتماد على أدوات وبرامج الذكاء الاصطناعي، يقلل من مهارة النقد والتحليل والمقارنة، ويقيد مصادر الاطلاع على الموضوع بحسب قاعدة البيانات المتوفرة على محركات الذكاء الاصطناعي.
وإن كل ذلك لا يعني اتخاذ موقف صدامي مع ثمار التطور والاستحداثات الرقمية المتسارعة، بل هو موقف رافض بحده لالتقاف مخرجات الحداثة والمستحدثات دون تمحيص وتمييز ومعاينة. وهكذا فإن الدعوة لاستثمار أدوات الذكاء الاصطناعي وتطويرها وإدماجها في الاستراتيجيات والأدوات وبرامج التدريب لا تنفصل عن التجديد وعدم الاكتفاء بها، إذ في ذلك خطورة إركان العقل الإنساني لتقنية الذكاء الاصنطاعي واستسلامه لأوامرها ومعلوماتها.
إن الحصول على الإلهام المعرفي الذي يليق بمستوى التطور الإنساني الذي وصلنا إليه اليوم، يحتاج إلى إنضاج معرفة إنسانية تعتمد على أنماط التفاعل الإنساني، والارتقاء بمستوى الوعي، من خلال عدم الانقطاع عن التفاعل الاجتماعي، وتوظيف التجربة الشخصية، الأمر الذي يصنع المعرفة بدقة تشبه تلك الدقة التي يتم بها تشكيل الفسيفساء الفنية، وذلك باعتبارها جهداً شخصياً يحتاج إلى الوعي والتنظيم والتركيز والإبداع في وقت واحد.
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة