خرجت ألمانيا من الحرب العالمية الثانية مهزومة ومدمَّرة. يقول الخبراء إنه لو جُمع هذا الدمار في كتلة واحدة لشكّلت الكتلة جبلًا يبلغ ارتفاعه أربعة آلاف متر.
قام الألمان أنفسهم، أو على الأصح مَن تبقّى منهم، بتجميع حجارة المباني المتناثرة. وتولّت المرأة الألمانية الدورَ الأساسي في تلك المهنة الشاقة. كانت المرأة تعمل وهي في أزهى ملابسها. والسبب في ذلك أنها لم تكن تملك ملابس غيرها. فأثناء الحرب كانت العائلة الألمانية تحتمي في الملاجئ مع أثمن ما تملكه من مجوهرات وملابس. انتهت الحرب بتدمير البيوت تدميراً كاملاً. نجا فقط مَن كانوا في الملاجئ، ومعهم مقتنياتهم الثمينة، ومنها الملابس غالية الثمن. بهذه الملابس المتبقية، والتي كانت مخصصة للحفلات والمناسبات الاجتماعية، كانت المرأة الألمانية تعمل على نقل الحجارة من الشوارع المدمرة. كان المشهد غريباً.. حتى إن الجنود السوفييت والأميركيين الذين كانوا أول من وصل إلى برلين فوجئوا بغرابة المنظر: نساء بملابس السهرة يعملن في الخنادق، ويحملن على أكتفاهنّ أكياساً ملأى بحجارة المباني المدمرة، وهنّ يتصبّبنَ عرقاً!
وجنباً إلى جنب مع المرأة الألمانية، كان يعمل النازيون القدماء الذين خدموا في الحزب الهتلري. فقد عُهد إليهم بالمهمات الأصعب والأكثر تعرضاً لخطر القنابل التي أطلقتها قوات الحلفاء، والتي لم تنفجر حتى حينه.
خلّفت الحرب العالمية الثانية 40 مليون ألماني مشرّد، بلا بيت ولا مأوى. وكانت الحصة الغذائية اليومية للشخص الواحد منهم لا تزيد على 1550 وحدة حرارية، أي أقل من المعدل الذي كان يتمتع به الجندي الأميركي في كل وجبة من الوجبات الثلاث التي كانت تقدَّم له.
كان التشرّد سبباً لتعرّض المرأة الألمانية لاعتداءات الجنود الأجانب، وكانت مقاومة الاعتداء الجنسي تعد سلوكاً نازياً!
من هذه الخلفية المأساوية وُلدت ألمانيا من جديد؛ فبموجب برنامج مارشال الأميركي لمساعدة أوروبا بعد الحرب على إعادة بناء ذاتها، حصلت ألمانيا على 1.4 مليار دولار. إلا أنها أُخضعت لقبول تقسيمها إلى دولتين؛ شرقية تحت المظلة السوفييتية، وغربية تحت المظلة الأميركية. ومع ذلك، فقد كان على ألمانيا أن تسدّد المبلغ كقرض، خلافاً للدول الأوروبية الأخرى، خاصة بريطانيا وفرنسا، إذ حصلت كل منهما على مبالغ مضاعفة كهبة. القرض يقدّم للمنهزم والهبة للمنتصر. لكن ما كان للاتحاد الأوروبي أن يقوم لولا قوة اقتصاد هذا المنهزم.. وما كان لليورو الأوروبي أن يولد إلا من رحم «المارك» الألماني الذي هبطت قيمته أثناء الحرب وبعدها حتى وصل إلى اللاشيء تقريباً.
كان قائد الفرقة الموسيقية (الأوركسترا) النمساوية «هيربرت فون كاراجان» عضواً في الحزب النازي، وكان مقرّباً من هتلر.. ومع ذلك فقد ترأس الفرقة الموسقية الألمانية لمدة ثلاثة عقود متغلباً بفنّه على نازيته.
مرّ وقت طويل كان فيه الإنسان الألماني يعيش عقدة الذنب.. لكنه الآن يعيش نشوة التفوّق: لا اتحاد أوروبي من دون ألمانيا، ولا «يورو» من دونها، ولا خلاف ولا وفاق مع روسيا من دون موافقة برلين.
هبطت ألمانيا إلى الحضيض وتمرمغت في وحول النازية.. لكنها عرفت الطريق إلى القمة من جديد، وتربّعت على عرش الوحدة الأوروبية.

*كاتب لبناني